|
شيخ الإسلام ومفتي الأنام بحمص الشام علامة الأقطار السيد عبدالستار أفندي بن المفتي ابراهيم الأتاسي
المفتي الثامن من آل الأتاسي
شيخ الإسلام ومفتي الأنام السيد العلامة عبدالستار أفندي بن ابراهيم أفندي الأتاسي، جدي الأعلى، الشيخ الإمام الكبير، والفقيه العالم الشهير، مفتي حمص المحمية، وابن مفتيها وابن أخي مفتيها، وحفيد مفتيها، ووالد مفتيها وجد مفتيها، سليل أسرة العلم والمجد والإفتاء، هو أحد أبناء ثلاثة للشيخ المفتي ابراهيم الأتاسي، وأخواه، عبدالغني وياسين، هما جدا البطن "العطاسي" الحمصي، ولا ندري إن كانا من الأم ذاتها التي أنجبت الشيخ عبدالستار، ولكننا نعلم أن والدة الأخير كانت طرابلسية من آل هاجر الأفيوني المنتمين لملوك آل عثمان، تزوجها والده ابراهيم بعد أن عزل عن حمص وتولى فتوى طرابلس كما جاء معنا في ترجمته. والشيخ عبدالستار هو جد الفروع الثلاثية، إذ أنه أنجب السادة العلماء الأنجاب سعيد ومحمد وأمين الأتاسي، ولكل من هؤلاء عقب كثير منتشر.
وننقل هنا ترجمة المفتي عبدالستار كما جاءت في "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" للشيخ عبدالرزاق البيطار رحمه الله الذي قال:
"الشيخ عبدالستار أفندي بن الشيخ إبراهيم أفندي بن الشيخ علي أفندي الأتاسي مفتي مدينة حمص البهية، العالم العامل، والحبر المدقق الكامل، والدر المختار لتنوير الأبصار، وإمداد الفتّاح للصعود على مراقي الفلاح، فلا ريب أنه محيي ربع العلم بعد اندراسه، ومنير كوكب الفضل بعد انطماسه، وقد استوى على عرش الورع والعبادة، واحتوى على ما يوجب التقدم للمعالي والسيادة.
ولد في طرابلس الشام، وتربى على أيدي السادة الكرام، فأكب على تحصيل العلم من صغره، كما أنه تجرد لحسن العمل في كبره، وتولى رحمه الله التدريس في الجامع النوري، وقد حضر إلى دمشق المحمية، فأقبل على الأخذ من علمائها بهمة قوية، كالشيخ محمد الكزبري عمدة الأخيار، والشيخ محمد ابن عبيد العطار، وأخذ الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان عن الشيخ نجيب القلعي والسيد شاكر العقاد، وغيرهما من العلماء الأعيان.
وكان مكملاً في العلوم من منطوق ومفهوم، تهابه القلوب لفضله وتعظمه، ويجله العموم ويحترمه، مع أنه لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تدنيه الأماني عن المعاطب والمآثم، وله شعر لطيف رقيق، ونثر أعذب من الرحيق، ومفاكهات أدبية، ومناسبات لما يخل الأدب أبية.
توفي رحمه الله في معان بعد أداء الحج الشريف، ودفن هناك، وقبره على يسار الداخل إلى معان من جهة الحجاز، وقد صين قبره بأربعة جدر من اللبن، وما شاع عند أهل معان من أن صاحب هذا القبر اسمه الشيخ عبدالله فهو مما جرت به العادة بين الناس غالباً من أن كل من مات غريباً في محل وكان ذا قدر ولم يعرفوه فإنهم يسمونه بالشيخ عبدالله، والتحقيق أن هذا المقام مقام المترجم المرقوم كما هو محقق عند أهالي حمص خلفاً عن سلف، وكان قد حضر دفنه في هذا المحل جماعة من أهل حمص، وكانت وفاته سنة خمس وأربعين بعد المائتين والألف (1829م) رحمه الله تعالى.
وقال هذا الموشح في مدح الشام:
حبذا الشام مقر الشرفا
صانها المولى لطيف اللطفا
وديار الأنس فيها وطني
من صروف الدهر طول الزمن
دور
كم بها الأخبار حقاً وردت
وكذا الأبدال فيها سكنت
خيرة الله تعالى قد غدت
فهي دار الأتقياء الحنفا
كنبي الله يحي ذي الوفا
وأحاديث روتها العلما
وخيار من خيار الكرما
وإليها يجتبي أهل الحمى
من بهم يشفى غليل البدن
وكذي الكفل جزيل المنن
دور
جامع الأموي حاوي العابدين
في خشوع لو تراهم ساجدين
يسألون الله رب العالمين
وجوار الهاشمي المصطفى
من له قلب رحيم قد صفا
في دياجي الليل والناس نيام
ووجوه زانها نور القيام
جنة الفردوس في دار السلام
أحمد المختار أوفى محسن
والد الزهراء جد المحسن
دور
كم رياض مع غياض حولها
وقصور عاليات كم لها
وسرور وحبور حلها
طالما قضيت عمراً سلفا
حينما قد كنت صبا دنفا
وبساتين قد زهت بالنيربين
وعيون فائقات كل عين
تجمع الشمل الذي من بعد بين
بين أحباب وشهم فطن
خالي الأفكار في عيش هني
انتهى ما جاء في حلية البشر للبيطار عن المترجم[1].
وكان الأتاسي قد عاد إلى حمص واستعاد منصب الفتوى، منصب آبائه وأجداده، بعد أن كان والده قد عزل عنه. وقد رسم له بالإفتاء عام 1220 من الهجرة (1805م) بعد وفاة مفتي حمص-في الغالب- عبدالحميد ابن عبدالوهاب السباعي، تلميذ أبي المترجم، وبذلك استقامت للشيخ عبدالستار الفتوى الحمصية مدة ربع قرن حتى توفي عام 1245 الهجري (1829م)[2]. وبالإضافة إلى وظائف الفتوى والتدريس بالجامع النوري الكبير ورث العلامة الأتاسي النظر على وقف أجداده مسجد دحية الكلبي رضي الله عنه كما تدل عليه وقفيته المؤرخة عام 1242 من الهجرة (1827م)، ولعله تولاه بالإمامة كذلك[3].
وقد اشتهر علم الأتاسي وعرف نبوغه وأشار إلى ذك الكثير من العلماء، فكان حفيده العلامة خالد الأتاسي يصفه في إجازاته التي يتصل سنده فيها في نقل العلم بجده عبدالستار "بعلامة الأقطار"، وكان ابن حفيده العلامة طاهر الأتاسي يصفه في إجازاته بأنه "علامة زمانه على الإطلاق"، وفي بعض المستندات المحكمية وجدناه ينعت "بنخبة العلماء والفضلاء المدرسين". هذا وقد مر معنا في الفصل الأول أن العلامة محمد أبو السعود أخبر أن علامة الشام ورأس علمائه، إمام الحنفية في عصره، السيد الشريف محمد أمين عابدين الحسيني[4]، صاحب الحاشية الشهيرة المعروفة باسمه، والذي كان شيخ ابني المترجم، الشيخين محمد وأمين الأتاسي، قد أثنى على العلامة عبدالستار الأتاسي في بعض رسائله، ووجدنا هذه الرسالة التي ألفها العلامة ابن عابدين، وهي في حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، سماها "تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم سيد الأنام"، فإذا بداعي تأليف الرسالة هو تباين في الآراء بين العالمين الجليلين عبدالستار الأتاسي وأمين عابدين في هذه المسألة، ويبدو أن العلامة الأتاسي كان شديداً على شاتمي الرسول، فأرسل الأتاسي إلى أمين عابدين رسالة يبدي له فيها ما ظهر له من أدلة وأحكام ويطلب الرد، فكان أن ألف العلامة ابن عابدين هذا الكتاب وقال في سبب تصنيفه:
"وكان الداعي لتأليفه، ووضعه وترصيفه، أني ذكرت في كتابي العقود الدرية، تنقيح الفتاوى الحامدية، نبذة من أحكام هذا الشقي اللعين (يعني شاتم الرسول)، الذي خلع من عنقه ربقة الدين، بسبب استطالته على سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، ولكن على حسب ما ظهر لي من النقول والأدلة القوية، أظهرت الانقياد وتركت العصبية، وملت إلى قبول توبته، وعدم قتله، إن رجع إلى الإسلام، وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام، ولكن لا مجال للعقل، بعد اتضاح النقل، وكان قد اطلع على هذه النبذة التي كتبتها علامة عصره، ويتيمة دهره، ذو الفضل الظاهر، والذكاء الباهر، والعلوم الغزيرة، والمزايا الشهيرة، الشيخ عبدالستار أفندي الأتاسي، مفتي حمص حالا، زاده الله تعالى مجداً وإجلالا، فسنح له بعض إشكالات في تلك المسألة، أذ هي من أعظم المعضلات المشكلة، قد زلت فيها أفهام المهرة الكملة، فترجح عنده قتل هذا الشقي وإن تاب، وأرسل إلي ما سنح له طالباً للجواب، على وجه الاختصار كما كتب…"[5]. ولعل آل عابدين في دمشق لا زالوا يحتفظون برسالة العلامة الأتاسي في حكم شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم والتي أرسلها إلى صديقه ابن عابدين، رحمهما الله.
وترجم للأتاسي الدكتور الشيخ محمد عبداللطيف بن صالح الفرفور الدمشقي فقال في مقدمة الترجمة[6]:
"مفتي حمص في زمانه، وعالمها في إبانه، فقيه الحنفية الأكبر، وإمامهم الأشهر".
وفي حمص تولى الأتاسي التدريس فأقبل عليه طلاب العلم ونهلوا من معينه الغزير، وأخذ عنه الكثير من علمائها، وكان ينيط بهم التدريس والخطابة في المساجد إن وجد أهلية فيهم لذلك، ومن هؤلاء شاعر عصره الأكبر المشهور، الشيخ أمين الجندي العباسي[7]، صاحب الموشحات المعروفة، الذي لازم المفتي الأتاسي وأفاد منه، وكان بين السيد الأتاسي وبين السيد الجندي مساجلات شعرية، أغلبها في المدائح الشعرية[8]. ومما قاله الجندي قصيدة في مدح شيخه الأتاسي لما زار الأخير المدينة المنورة عام 1245 من الهجرة (1829م)[9]:
شمس المعارف من وراء ستائـر | بزغت تقبل ذيـل عبـد الساتـر | |
مفتي الأنام وشيخ إسلام الـورى | من لم يزل للدين أعظـم ناصـر | |
هو روضة الفضل التـي أفنانهـا | للهدي تطلـع كـل نجـم زاهـر | |
نجل الأتاسي الذي بسمـا العـلا | ورث المفاخر كابرا عـن كابـر | |
اعني ابن ابراهيم كعبـة قصدنـا | بدر الهدى بحر العلـوم الزاخـر |
ومن الذين طلبوا العلم عليه الشيخ العالم الجواد السيد الشريف سليم صافي المتوفي في حمص عام 1881م[10]، ومنهم أولاده العلماء الذين أخذوا عنه ورووا الحديث بسنده عن الشمس الكزبري[11].
ومن أعمال الأتاسي الفتوى الجريئة التي ذكرناها والتي أصدرها في مقدمات عام 1242 من الهجرة (1826م) في إباحة دم حاكم المدينة محمد آغا بن خير الله، والأخير كان قد انتهك حرمات الأهالي وأعمل فيهم نهباً وقتلاً، فلما فرض الحاكم ضريبة إضافية، وهي ضريبة الفروة، على السكان بإيعاز من الوالي، وقد زيدت على الأموال التي نهبها منهم، أضاف هذا إلى حنق الأهالي وفاض الكيل، فاتجهوا إلى مقر مفتيهم وحصلوا على موافقته ثم توجهوا إلى منزل الحاكم وقتلوه. ولو لم يكن الأتاسي واثقاً في شرعية فتواه وفي مدى دعم الأهالي له لما أقدم على هذا الفتوى الجريئة. وكان نتيجة ذلك أن أرسل والي الشام، صالح باشا، قوة لتأديب الحماصنة لكنها فشلت في ذلك بصمود الأهالي تحت قيادة حاكمهم حسن آغا الباكير، وانفك أخيراً الحصار بعزل الوالي[12].
ونذكر هنا قصة عن اريحية العلامة الأتاسي وإغاثته للملهوف تروى بالتواتر أفادني بها السيد محمد نافذ بن طلعت الأتاسي يرويها هو عن عمه السيد محمد سري بن راغب بن محمد أمين بن عبدالستار الأتاسي وهو بدوره يرويها عن والده عن جده ابن المترجم. كان المفتي عبدالستار الأتاسي يسكن بالدار المعروفة بدار المفتي والتي هدمت في أواخر القرن الماضي والتي كان بجانبها الصيباط المعروف بصيباط المفتي (ولا يزال ذلك الحي يعرف بحي المفتي)، وكان يسكن معه في ذلك القصر زوجته وأولاده الثلاثة سعيد ومحمد وأمين، وفي تلك الأيام كان الأمن غير مستتب بسبب غارات البدو واللصوص المتكررة على المدينة ولذلك كانت أبواب المدينة تغلق قبل الغروب. وحدث ذات يوم أن أغار البدو من جهة باب تدمر على حي المسيحيين في منطقة بستان الديوان فهربت عشرات الأسر مع أطفالها من ذلك الحي ولجأت إلى بيت المفتي عبدالستار الأتاسي تحت الصيباط بعد أن نصحها رجال المنطقة بذلك، فاستقبل المفتي وأولاده هذه العوائل في القصر وأغلق باب الدار الذي كان سميكاً كباب الحصون بعد أن فرت الأسر القاطنة في المنازل المجاورة خشية فتك البدو وبأسهم. هنالك رفع المفتي يده إلى السماء في ذلك الوقت العصيب ودعا ربه قائلاً اللهم أكثر من ذريتي لتدفع عن المظلوم سطوة الظالم، فاستجاب الله له وخرج من صلب الأتاسي عدد كبير من ذوي الأريحية والكرم والعاملين على نجدة المحتاج والوطنيين والعلماء والمناضلين والشهداء ممن كرسوا أوقاتهم وأموالهم وأقلامهم وألسنتهم وجوارحهم لرفع راية الحق وخاض الكثير منهم المشاق من أجل ذلك.
ترجم للأتاسي العلامة البيطار في حلية البشر، والدكتور الشيخ محمد عبداللطيف صالح الفرفور في "ابن عابدين وأثره في الفقه الإسلامي"، والدكتور عبدالإله النبهان في مقالة بعنوان "لمحات من أدب أواخر العهد العثماني" في مجلة تراث العرب. رحم الله الأتاسي رحمة واسعة وأسكنه جناناً شاسعة.