|
علامة حمص الأكبر المحدث الفقيه الفلكي اللغوي محمد المحمود بن محمود بن عبدالصمد بن يحيى بن علي الصغير الأتاسي
رئيس مكتبة حمص الشرعية
العلامة محمد أفندي المحمود بن محمود بن عبدالصمد بن الشيخ يحيى أفندي بن المفتي علي الأصغر أفندي الأتاسي، أحد أعلم علماء حمص الفقهاء، وشيوخ عصره النبهاء. ولد بحمص عام 1245 من الهجرة الشريفة (1321م) [1]، ودرس العلم على علماء آل الأتاسي الأعلام، فأفادوه وهذبوا منه الفطن والأفهام، وأحسنوا تعليمه فما تركوا نقصاً أو إبهام، وتخرج على أيديهم واعياً علوم الفقه والحديث والتفسير، فنبغ فيها وذلل منها العسير، وكباقي علماء الأتاسية قام بالوعظ والتدريس، وأقر له بالفضل والمعرفة كل جليس، وطارت شهرته بالآفاق، وعرف عنه كثرة الإفادة وطيب الأعراق. وهو جد آل الشيخ من بطون السادة الأتاسية، عرفت ذريته بهذا اللقب لشهرة جدهم بعلمه وفضله.
والحقيقة أن العلامة الأتاسي من النوابغ النجباء، فقد طلب العلم كبيراً ولم يبدأ بطلبه صغيراً، ومع ذلك نبغ فيه وتفوق وسبق أقرانه كلهم، والعادة أن يجتهد العلماء في طلب العلم منذ نعومة الأظفار، ويستمروا في طلبه سنين وأعوام قبل أن يشهد لهم بالعلم ويجاز لهم بالتدريس. أما قصة طلبه للعلم فقد بدأت في إحدى مجالس ابن عمه علامة حمص ومفتيها الشيخ خالد الأتاسي، فقد كان للمفتي المذكور حلقات علم يدرس فيها عليه الطلاب ويتذاكرون فيها المسائل، وكان الشيخ محمد المحمود يأتي إلى منزل ابن عمه فيجلس في إحدى الغرف المجاورة ليشرب القهوة أو الأرجيلة ويتسمع إلى محاورة الشيخ خالد الأتاسي مع طلابه، وذات مرة أراد العلامة خالد الأتاسي أن يمتحن أحد طلابه في إحدى المسائل التي كانوا قد مروا عليها اليوم السابق فتلعثم المسؤول عن المسألة، فما كان من الشيخ محمد المحمود إلا أن انبرى بالاجابة، سارداً على ابن عمه العلامة خالد الأتاسي ما وقع من مذاكرة بينه وبين الطلاب بالأمس، فتعجب منه الشيخ خالد وقال له: إن لك لقدرة على طلب العلم فلا بد إذاً من أن تسلك طريقه، فقال: "أأسلك طريق العلم الآن ولم أعد صغير السن؟"، فأجابه بنعم، ولقي الشيخ محمد المحمود كل التشجيع من الشيخ خالد الأتاسي، ودرس عليه العلم وعلى غيره من علماء حمص، وما لبث أن غدا من كبار العلماء الأعلام.
وللشيخ محمد المحمود عند بداية ظهور فطنته قصة مع مفتي الشام العلامة الكبير المشهور الشيخ الشريف محمود حمزة، ذلك أن المترجم رافق الشيخ خالد الأتاسي ذات مرة إلى دمشق ولم يكن أمر الشيخ محمد المحمود قد اشتهر بعد، وذهب به الشيخ خالد إلى مجلس المفتي المذكور، وجلس العلماء في القاعة وفي صدرها جلس الشيخ خالد الأتاسي والشيخ محمود الحمزاوي، وقعد الشيخ محمد المحمود في آخر القاعة، ولما لم يكن من عادة المترجم أن يرتدي لباس العلماء الذي كانوا يعرفون به في ذلك الوقت، فإن أحداً من الجالسين لم يدر أنه من سلك العلماء، وشرع العالمان الكبيران خالد الأتاسي ومحمود الحمزاوي بتدارس المسائل العلمية وعلماء دمشق هم لهما في انصات وإذعان، ثم لما وصلا إلى إحدى المسائل الفقهية اختلف المفتي الحمصي الأتاسي مع نظيره الدمشقي الحمزاوي، وعندها تدخل الشيخ محمد المحمود الأتاسي وأشار إلى أن المسألة المختلف عليها قد وردت في الكتاب الفلاني في الصفحة الفلانية، فأحضروا المرجع فإذا بالمسألة العلمية تظهر حيث أشار إليها الشيخ محمد المحمود، فاستغرب العلامة الحمزاوي من هذا الاطلاع وذلك العلم وسأل الشيخ خالد الأتاسي عن هذا الحاضر المجهول، فقال له خالد الأتاسي هو ابن عمي، فطلب الحمزاوي من الشيخ محمد المحمود الاقتراب والجلوس معهم حيث يتدارسون، فأبى الشيخ محمد المحمود الجلوس معهم إلا أن يؤتى له بالأرجيلة، وكان الشيخ محمود الحمزاوي يفتي بتحريم الدخان ولا يدخله على مجلسه أبداً، فلما رأى أن الشيخ محمد المحمود قد اشترط شرب الأرجيلة طلبها له ليكون للشيخ محمد المحمود مجلس معهم. وسرعان ما اشتهر أمر الشيخ محمد المحمود وعلمه، وطارت أخبار نبوغه في البلدان، وأصبح من العلماء المقصودين في حمص وباقي بلاد الشام.
وقد كان الأتاسي من كبار المدرسين يلتحق بحلقاته الطلاب من جميع الأنحاء لينتفعوا بعلمه، بل كان الأتاسي نفسه يتتبع ذوي الفطن الحاذقين فيدعوهم إلى حلقاته ويلحق بدروسه من كان يجد فيهم قدرة على طلب العلم وجدّاً، وكان ينزل المساجد في حمص فيعقد مجالس التدريس وحلقات العلم فلا يقصرها على طلاب العلم أو العلماء بل كان يقصد إفادة الخاص والعام حتى أنه قيل أن الشيخ محمد المحمود كان أول من أنزل العلم إلى المساجد من آل الأتاسي[2].
وتخرج على يده عدد هائل من علماء حمص، درسوا عليه الفقه الحنفي وعلوم اللغة العربية والتفسير والحديث وعلم الفلك، فمن الذين قرأوا عليه الشيخ العلامة محمد شاكر المصري الحمصي، الشاعر المعروف، والصوفي المشهور، المدرس بمسجد مصطفى باشا الحسيني وأستاذ المدرسة العلمية الوقفية، وصاحب المصنفات، المتوفي عام 1371 للهجرة (1951م)[3]. ومن تلاميذه أيضاً الشيخ المؤرخ محمد سعيد حسين آغا الحسيني، إمام ومدرس جامع مصطفى الحسيني (1296-1378 من الهجرة)، والذي قرأ عليه الفقه الحنفي والتفسير والتوحيد وعلم الميراث[4]، ومنهم الشيخ العلامة المسند محمد أبو النصر بن محمد سليم خلف الشافعي الذي روى الحديث بسند العلامة الأتاسي[5]، ومنهم الشيخ العالم محمد طاهر بن محمد أنيس حسين آغا الحسيني الإمام بالجيش العثماني والإمام المدرس بمساجد الرملة[6]، ومنهم الشيخ العالم الفقيه الفلكي محمد أبو الهدى الأتاسي[7]، ومنهم الشيخ العالم الشاعر محمد الخالد الفصيح[8]، درس على العلامة الأتاسي قواعد اللغة العربية والعلوم الشرعية، ومنهم المرحوم الشاعر الأديب الشيخ مختار بن برهان بك الدروبي والذي أخذ على الأتاسي علوم العربية والبيان والبديع حتى نبغ فيها[9]، ومنهم الشيخ محمد خالد الشلبي الحمصي الكاتب الشهير، وفي تلمذة الشيخ خالد الشلبي على العلامة الأتاسي يقول المؤرخ الجندي في تاريخه مترجماً للشلبي: "ولما أينع استلفتت مواهبه البارزة أنظار علامة حمص الأكبر المرحوم الشيخ محمد محمود الأتاسي فضمه إلى حلقته الدراسية وعليه تلقى علوم الأدب العربي والفقه والحديث والتفسير فكان أحد أقطاب العلم في عصره، وكانت ثمرة إعجابه بنجابته أن زوجه بابنته فاطمة، فأنجبت منه عدة أولاد لم يعش منهم سوى الاناث"[10]، ومنهم الشيخ الفقيه العالم بالميراث وأحكام المبيع والشراء الشيخ عادل بن عمر بن ابراهيم بن عمر بن ابراهيم بن بن صالح السيد سليمان الأتاسي[11]، ومنهم التاجر الفنان المنشد الشيخ عبدالخالق عبارة والذي قال في ترجمته الجندي: "كان رحمه الله يتردد على مجلس الشيخ محمد المحمود الأتاسي العالم واللغوي الشهير في حمص ومن كان يجالس هذا العالم فلا شك بتضلعه في علوم اللغة العربية"[12]. ومن الطلاب الذين درسوا على المترجم الشيخ العالم أحمد بن يوسف بن أحمد بن عبدالجليل المسدي، إمام جامع القاسمي والمدرس فيه، وصاحب أحد الكتاتيب في حمص، فقد لازم المسدي العلامة الأتاسي فكان الأتاسي شيخه وأستاذه المؤثر فيه، وكان المسدي من طلاب الأتاسي النبهاء والمقربين، فزوجه العلامة الأتاسي ابنته السيدة زينب، وكان للمسدي منها بنت. ومن الذين أخذوا عن العلامة الأتاسي كذلك الشيخ عبدالغفار عيون السود، والشيخ محمد علي عيون السود من علماء حمص المعروفين[13].
ويجدر بالذكر أن العلامة الأتاسي تولى رئاسة كتاب المحكمة الشرعية بحمص كما وجدنا في بعض الوثائق المحكمية[14].
وقد جاء على ذكر العلامة محمد المحمود الأتاسي محمد عبدالجواد القاياتي في كتابه "نفح البشام في رحلة الشام" عندما التقاه وابن عمه الشيخ خالد الأتاسي فقال:
"ومنهم الذكي الألمعي والإمام اللوذعي، أتاسي زادة الشيخ خالد أفندي، مفتي مدينة حمص سابقاً، والشيخ محمد أفندي المحمود صاحب الفضل المشهور، والطالع المسعود، المشتغل على الدوام في مدينة حمص بإحياء الدروس وتهذيب النفوس. وأهل بيت الأتاسي كلهم لا يشغلهم عن تحصيل العلم شاغل ولا يعتريهم في إفادته واستفادته توانٍ ولا تكاسل. كما أخبرنا نقلة الأخبار أنهم مشغولون به آناء الليل وأطراف النهار، وكيف لا، وهم من بيوت العلم كابراً عن كابر، وكم ترك الأول للآخر. جاء إلى بيروت هذان العالمان لقضاء أغراض ومصالح تتعلق بأولياء الأمور، وأقاما بها عدة شهور، فاغتمنا صحبتهم، وانتهزنا فرصة الأنس بهم في تلك المدة التي كأنها ساعة من القصر، لأنها مرت كلمح البصر. كانا يحضران معنا في بعض الأوقات المطالعة العلمية بأذهان حادة حاضرة ذكية، فلله ما أعجب هذا الذكاء الباهر والفكر الحاضر"[15].
وذكره العلامة الحصني في كتابه "منتخبات التواريخ لدمشق" عندما تعرض لذكر من اشتهر من رجال الفضل في مدينة حمص واستهل الكلام بأعلام الأسرة الأتاسية فقال: "ومن رجال الفضل فيهم العلامة الشهير محمد المحمود وولده الشيخ محمود وهما من جهابذة رجال العلم"[16]. وفي الوثائق الشرعية كثيراً ما كان يلقب "بجناب عمدة العلماء الكرام الشيخ محمد أفندي المحمود"[17].
ترجم له الزهراوي فقال: "العالم العامل الفقيه الحنفي البارع الورع والمدرس في الفقه والعلوم الدينية، تلقى علومه ومعارفه على علماء أسرته وسواهم من علماء حمص الأفاضل، وكان يدرس في حلقته شرح القدوري في الفقه الحنفي وغيرها من كتب التخصص في الفقه، وتفسير البيضاوي، وشرح الشفاء، وعلم الفرائض، وعلوم اللغة العربية، ومنها شروح الآجرومية وعلم الفلك وغيرها من العلوم العقلية والنقلية، كان له محل تجاري بسوق العطارين لكسب معاشه، وكان يؤمه الناس للاستفتاء والنظر في المسائل الشرعية ولحل مشاكلهم، وما يزال محله قائما يعمل به أحد أحفاده"[18].
هذا وقد أخبرني الشيخ زهير الأتاسي –السابقة ترجمته- مما سمعه عن علماء حمص، كما أخبرني غيره، أن العلامة محمد المحمود الأتاسي كان رجلاً صالحاً من أولياء الله له كرامات تحكى وولاية معروفة تذكر.
[19]. بعد أن ترك في حمص أثراً كبيراً وعلماً نافعاً وبعد أن تخرج على يديه أفواج كثيرة من العلماء نشروا بدورهم العلم وعملوا به ودرسوه حتى لم يبق في حمص عالم إلا وقد انتفع بالعلامة الأتاسي وإن لم يدركه، فكان الأتاسي بحق أحد أكبر العلماء في تاريخ حمص، رحمه الله رحمة واسعة وحشره مع المتقين والصديقين والعاملين.