|
شيخ السلطان العلامة الشريف ابراهيم أفندي بن محمد أبي الفتح الأتاسي
خطيب مسجد خالد بن الوليد
الشيخ العلامة إبراهيم أفندي بن الشيخ أبي الفتح محمد أفندي الثاني الأتاسي، أحد كبار علماء الأتاسيين المأخوذ عليهم. ولد في حمص عام 1268 للهجرة (1852م)[1]، ودرس على أبيه مفتي حمص وأعمامه العلماء، كما أنه أخذ عن غير الأتاسية من علماء حمص، ومن هؤلاء العالم الشاعر محمد أبي الجود بن مصطفى الخانقاه، الحمصي المولد نزيل دمشق، والمتوفي عام 1291 للهجرة (1874م)، قال المؤرخ الجندي في ترجمته للخانقاه "من المعروف أن كثيراً من علماء الأسرة الأتاسية، ومنهم العلاماتان ابراهيم وطاهر الأتاسي رحمهما الله، قد تلقوا العلم عنه"[2]، والشيخ الخانقاه أحد أصحاب الشاعر الكبير أمين الجندي الذي بدوره أخذ أكثر علمه عن علماء الأتاسيين من أسلاف الشيخ ابراهيم وطاهر الأتاسي، كما أخبر الحصني ومر معنا في الفصل السابق.
وتولى العلامة الأتاسي بعد أن رتع من العلوم والآداب ما أرضى شيوخه خطابة جامع خالد ابن الوليد في حمص بعد أخيه الشيخ عبداللطيف الأتاسي[3]. وأمّ حلقاته طلاب العلم فأخذوا عنه، ومن الذين أدركوه واستفادوا منه الشيخ العالم الفقيه وصفي بن أحمد المسدي الإمام والمدرس في جامع القاسمي[4]، والشيخ الفقيه السيد محمد طاهر بن محمد أنيس حسين آغا الحسيني الإمام بالجيش العثماني والإمام المدرس بجوامع الرملة[5]، وغيرهم. وفي حوالي عام 1303 من الهجرة (1886م) دعا خليفة المسلمين السلطان عبدالحميد العلامة الأتاسي إلى زيارته في الأستانة في محاولة من قبل السلطان في تجميع الدعم للجامعة الإسلامية التي كان يزمع على إنشائها ليوحد بها شتات المسلمين الذين تكالب عليهم عدوهم من كل الأنحاء ويجعل منهم أمة واحدة تهب كلها لنجدة بعضها ويدرأ بعضها أهوال العدا عن البعض الآخر، رحم الله السلطان عبدالحميد رحمة واسعة واقتص من كل من نال منه وهو يعرف أنه يظلمه. فشد الأتاسي عصا الترحال ودخل الأستانة واجتمع هنالك بخليفة المسلمين وبالشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي الحسيني، وحصل الأتاسي من الشيخ أبي الهدى على إجازة بالطريقة الرفاعية، وسمع الخليفة عبدالحميد من فوائد العلامة الأتاسي ومنحه لقب "شيخ السلطان" وأنعم عليه بهبات منها قرآن فاخر لا يقدر بثمن مكتوب بخط اليد بماء الذهب لا يزال موجوداً عند أحد حفدته في حمص، وبفرمانات لإنشاء تكية وقصر له في حمص تقام فيه الأذكار على الطريقة الرفاعية، فعاد الأتاسي إلى حمص وأنشأ التكية وصار يفتح هو حلقة الذكر على الطريقة الرفاعية ويديرها شيخ من آل زين العابدين الرفاعية كان قد حصل أيضاً على إجازة من الشيخ أبي الهدى الصيادي في الأستانة. وبعد أن رجع الأتاسي إلى حمص صار يضرب له الحرس السلملك العثمنلي إذا ما دخل المجالس الرسمية بحكم كونه شيخ السلطان[6].
وللأتاسي مآثر عديدة يرويها أهل حمص، حدثني الشيخ زهير بن عبدالرحمن الأتاسي أن الشيخ ابراهيم الأتاسي كان بين يدي الحلاق لما جاء خبر اعتقال الفرنسيين للشيخ الجمالي، فقال للحلاق: "هات عدة الصنعة" يعني العمامة والجلباب، وتوجه فورا إلى مكتب المستشار الفرنسي، وهنالك قال للمترجم: "تقول الحق فقط"، ثم قال: "لا تحوجونا فتحرجونا" مطالبا بالإفراج عن الشيخ الجمالي. ويروي السيد غزوان مجج الأتاسي أن المستشار الفرنسي بحمص كان أحيانا يتردد على منزل الشيخ ابراهيم الأتاسي لكونه من أعيان حمص، فكان الأتاسي يطلب من خادمه أن يراقب الطريق المؤدي إلى باب المنزل، فإذا ما لمح المستشار قادما نبه الخادم الشيخ ابراهيم، فيصعد الأخير إلى الطابق الثاني بينما يدخل المستشار الفرنسي المنزل، ثم ينزل الشيخ إلى باحة المنزل لاستقبال المستشار فيضطر الأخير للنهوض لتحية الشيخ، وبذلك كان يتجنب الشيخ ابراهيم القيام للمنتدب الفرنسي الكافر. كما كان رحمه الله قوي الشخصية والجسد، حدثني حفيده السيد جابر ين برهان بن ابراهيم الأتاسي أن المترجم خضع ذات مرة لعملية استئصال مرض وقع له من جسده من دون مخدر فلم تصدر عنه أنة.
كان الأتاسي رحمه الله مرجع المؤرخين لقوة حافظته. وللشيخ إبراهيم باع طويل في إخراج كتاب تاريخ حمص إلى حيز الوجود، وفي هذا يقول منير الخوري عيسى أسعد صاحب التاريخ في مقدمة كتابه[7]: "أما الفريق الثاني (ممن لعب دوراً في إمداد المؤلف بمادة كتابه) فأخص بالذكر منه شخصيتين كبيرتين لهما في تاريخ حمص يد طولى، أولهما سليل بيت الإفتاء من الأسرة الأتاسية الكريمة، صاحب الفضيلة إبراهيم أفندي الأتاسي، الذي وعى في ذاكرته القوية حوادث قرن ونصف من أخبار حمص الهامة مما حبس عن التدوين، وقد أخذ بعضه عن أسلافه ذوي الإطلاع الواسع والخبرة الوافية، وبعضه الآخر عما رآه بعينه وسمعه بأذنه منذ درج وشب حتى الآن".
وجاء على ذكره الحصني نقيب أشراف دمشق لما أراد ذكر أعلام أهل حمص فقال: "ومن مشاهيرهم إبراهيم أفندي أحد جهابذة رجال العلم في هذا العصر"[8].
كما جاء على ذكره العلامة الفقيه عبدالغفار عيون السود في ختام رسالته "دفع الأوهام في مسألة القراءة خلف الإمام" حيث طلب مؤلف الرسالة من السيد ابراهيم أفندي أن يقرظها لها، فقال الشيخ عيون السود معرفا به: "التقريظ الأول لفخيم الشأن الأمجد، وزعيم ذوي الفضل الأرشد، قطب أماثل العلماء الأعلام، ونخبة جهابذة المحققين العظام، العلامة الأوحد السيد ابراهيم أفندي الأتاسي"، وقد كتب العلامة ابراهيم أفندي مقرظا للرسالة:
" بسم الله الرحمن الرحيم، حمدا لمن خص العلماء بوراثة الأنبياء، وجعلهم أهلّةً وبدورا يستضاء بهم عند حدوث بدعة ضلالة عمياء، ووفق من أراده للقيام بما للأئمة من الحقوق، ولم يتدنس بشيء من القطيعة والعقوق، وبيّن لكل حقه، فأداه كما يجب، فشملته العناية الإلهية كما يحب. وصلاة وسلاما على سيد المرسلين، وإمام إئمة الدين، وآله وصحبه والتابعين، وبعد: فقد أطلعني العالم الفاضل، المحقق المدقق الكامل، ذو الفضل المدرار، الأستاذ الشيخ عبدالغفار، على هذه الرسالة، فقرأتها ودرستها، فوجدتها جنة عالية، قطوفها دانية، فريدة في بابها، مغنية لطلابها، تشهد لمنشيها بالفضل والتحقيق بما أودع فيها، وتنادي بأنه أجاد وأجاب، بما هو الحق والصواب، وهذا بلا شك ولا ارتياب، حيث عليه اجتماع الأمة والأئمة، وعليه جماعات المسلمين من مئات السنين، واسأل الله تعلى أن يجزي منشيها خير الجزاء، في داري الفناء والبقاء، ويجزي كل من يغار على الدين، ولا يفرق جماعة المسلمين، آمين. كتبه الفقير ابراهيم بن محمد الأتاسي عفي عنه"[9].
هذا وقد تزوج المرحوم الشيخ ابراهيم أفندي أربع مرات: مرة من السيدة جميلة بنت المفتي سعيد الأتاسي والتي أنجبت له ابنتيه خلود وبدرية، ومرة من امرأة شركسية من آل شُنُق أنجبت له السيد محمد الابراهيم الأتاسي، رئيس بلدية حمص، وحسين، ومرة من سيدة من السادة آل شمس الدين، والتي لم تنجب له، وأخيرا من السيدة إلهامة الصيادي الطرابلسية من الأشراف الرفاعيين المعروفين، بيت النقابة في طرابلس الشام، والتي أنجبت له باقي أولاده الذكور برهان الدين وسراج الدين وأحمد سامي ومنير الأتاسيين، وخمس بنات هن سنية وفخرية ونياز وإلفت وقمر[10]، كما جاء الحديث عن ذلك في مبحث النسب إلى الأمهات، وكان له منهم ذرية كثيرة، وقد خرج من أولاده من خاض كافة مجالات الحياة، فكان منهم العسكريون ورؤساء الدولة والمجلس البلدي، وأبطال الحرب الفلسطينية من الشهداء، وستأتي تراجم هؤلاء. توفي رحمه الله عام 1940م[11]. ويجدر بالذكر أن ولده الشيخ حسين الأتاسي طلب العلم الشرعي وتعمم بعمامة العلماء وكان من المرشحين لفتوى مدينة حمص رحمهما الله