|
أبو الدستور السوري فخامة الرئيس الجليل المجاهد الوطني محمد هاشم بك بن محمد خالد أفندي بن محمد أبي الفتح الأتاسي
رئيس الجمهورية العربية السورية
عميد السادة آل الأتاسي وكبيرهم وعين أعيانهم وأشهر مشاهيرهم على الإطلاق، زعيم بلاده الوطني الأول، ونقيب قواد استقلالها الأمثل، كان مثالاً يحتذى، ذا سيرة فواحة بالشذا، كان قائداً بصفاته يقتدى، مجلسه لأحرار البلاد منتدى، كان ملجأً لحل الخلاف، لما تشربت نفسه من حكمة وعفاف، كان واسع اللبان، حلو المنطق، عذب اللسان، فصيح البيان. لم يتوان في حمل آمال العرب، وإن حلت به النوازل من الفتور ما اقترب، كافح ورفاقه جور المحتلين، وظلوا لبيضهم حاملين ومستلين، ولحجج المستعمر مبطلين.
مولده ودراسته:
ولد الزعيم الجليل في مدينة حمص عام 1290 للهجرة الموافق للعام الميلادي 1873[1]، في الوقت الذي كان فيه جده محمد الثاني مفتي المدينة، ثم آلت الفتوى إلى والد المترجم، العلامة الشاعر خالد الأتاسي بعد عام 1302 للهجرة المقابل لعام 1886م. وعندما بلغ المترجم عامه الثالث سافر والده إلى الأستانة ليصبح نائباً في مجلس المبعوثان، وفي عام 1879م، زار الصدر الأعظم السابق، مدحت باشا، جد المترجم في منزله. وعلى ذلك شب الزعيم هاشم الأتاسي في بيت علم وشرف ونبل وزعامة وسياسة، وحضر مجالسات أقربائه العلمية والشعرية، ونشأ عارفاً بالمسؤلية التي تقع على كاهله لكونه سليل هذا البيت، فكان لكل ذلك أثره في إبائه ونضاله وشخصيته.
أخذ الأتاسي علوم الدين والشريعة والأدب الأصيل عن والده وأعمامه وغيرهم من كبار علماء حمص كالشيخ الشاعر العالم السيد سليمان بن أحمد الكيالي الرفاعي، وأتم دراسته الإبتدائية في مسقط رأسه، حمص. ثم أوفده والده إلى الكلية الإسلامية (المدرسة السلطانية) في بيروت ليتابع دراسته الثانوية، وهناك التقى بالزعيم الإمام محمد عبده، والذي كان يقضي فترة منفاه في بيروت، وأخذ المترجم على الإمام اللغة العربية ودرس عليه أفكاره الإسلامية، وفي بيروت أيضاً اجتمع الأتاسي بكامل دوامة، الذي كان كاتبا لسر السلطان عبدالحميد وأحد أقرب المقربين لديه ومن كبار أعيان الدولة العثمانية في ذلك الوقت، بل كان من الذين لا تصرف لهم كلمة عند السلطان، وأحب دوامة ذلك الشاب الأتاسي حباً وشجعه في دراسته كل تشجيع، وأراد أن يزوجه ابنته، فاعتذر الأتاسي قائلاً أنه خطب في حمص ابنة عمه المفتي عبداللطيف الأتاسي (وهو في مقتبل العمر) ووعد أباها أن يعود ليعقد عليها وما كان ليخلف وعده. ثم أراد والد المترجم أن يعده لأدوار الزعامة لما لمس فيه من تلك النجابة والكياسة، فأرسله ليكمل دراسته العليا في الأستانة، فدرس في المدرسة الملكية العليا للإدارة أربعة أعوام، وحاز على الشهادة الملكية سنة 1894[2].
حياته السياسية في العهد العثماني:
وبعد أن أتم دراسته دخل الميدان السياسي والإداري، فتعين بمنصب "بمعية والي بيروت" أعواماً ثلاثة، وكان هذا المنصب بمثابة نائب الوالي، ثم أصبح قائمقاماً في عدة أقضية، وبدأ بالمرقب (1897م)، فعكا (1897م)، فصهيون (1898م)، ثم قضاء المرقب ثانية (1899م)، فبانياس، فالحفة، ثم صفد (1902م)، فصور (1903م)، فالسلط (1904م)، فالكرك، فعجلون (1905م)، فجبلة (1908م)، ثم بعلبك (1909م)، فحاجين (1910م)، وأخيراً يافا (1911م)، ثم ترقى إلى منصب المتصرف، فعين في متصرفية حماة (1912م)، ثم عكا، فجبل بركات، وبور دور من بلاد الأناضول في ولاية قونية، وأخيراً بيروت عام 1913م. وبعد الحرب العالمية الأولى عاد إلى حمص وأصبح ثان متصرف لها بعد ابن عمه عمر الأتاسي وذلك بعد أن استقلت من متصرفية حماة، وتولى الأتاسي هذا المنصب من عام 1919-1920م[3].
وفي أدواره الإدارية يقول العطري: "خلال الحرب العالمية الأولى، سمحت له وظائفه الإدارية هذه بالتعرف عن كثب إلى جميع مناطق بلاد الشام، ومصادقة أهالي هذه المناطق، فأحبهم وأحبوه لدماثته، وتواضعه، وإخلاصه في عمله"[4].
ولا بد هنا من وقفة عند الدور التاريخي المبكر الذي لعبه الأتاسي في هذه أثناء هذه الفترة الحرجة من التاريخ الإسلامي والعربي، في الوقت الذي كانت المطامع الخارجية الصليبية والصهيونية تلعب على وتر "الأقليات" في البلاد الإسلامية وبلاد الشام خاصة محركة بواعث الفرقة المؤدية إلى الضعف والتفكك، ذلك أن حسه السياسي ووعيه المبكر لهذا الخطر جعله يدرك أن واجبه كولي أمر يكمن في إزالة هذه البواعث والأسباب، لذا نجده رحمه الله في أثناء حكمه لتلك المناطق من الدولة العثمانية أنه كان يعين الأقليات المستضعفة ويوفر لهم المأوى والحماية، حدثني السيد جابر بن برهان الدين بن ابراهيم بن محمد الأتاسي رواية عن السيد رعد بن رشاد بن عبدالرزاق بن عبدالقادر بن محمد الأتاسي أن طائفة الأرمن لا تزال إلى اليوم كثيرا ما تذكر للعائلة أيادي هاشم الأتاسي البيضاء على طائفتهم في حمايته لهم من المذابح لما كان قائم مقام بعض مناطق الأناضول التركية في أوائل القرن العشرين، وهذا جانب من شخصيته الرحمية الشفيقة. أما طائفة الشيشان فلا تنسى فضل هاشم الأتاسي، فهذا الوزير السابق سعيد بينو أحد الشخصيات الشيشانية البارزة في الأردن والذي تسلم حقيبة وزارة الأشغال العامة مطلع التسعينيات يؤكد أن حوالي 300 أسرة شيشانية وصلت إلى الأردن عام 1901 هربا من الاضطهاد القيصري الروسي وأسست مدينة الزرقاء، فيما اتجه قسم آخر منهم إلى منطقة صويلح، وأقاموا أول بناء في هذه المدينة بعد حصولهم على موافقة هاشم الأتاسي -الذي كان يشغل منصب قائم مقام منطقة السلط التي كانت تضم صويلح أيام العثمانيين- قبل أن يتقلد منصب رئيس الجمهورية السورية في الستينيات[5].
كفاحه السياسي:
بدأ نجم الأتاسي يبزغ في عصر العلمنة التركية لما وضعت جمعية الاتحاد والترقي يدها على مجاري الأمور وتحكمت بدولة الخلافة، وشرع العرب يشعرون بالتهميش وغبط الحقوق، وتألفت الجمعيات المناهضة لتتريك الدولة وعلمنتها. في ذلك العصر العصيب -وقد أصبحت الدولة محاطة بأعدائها من كل جانب ونفوذها في أطرافها بدأ ينهار- وقف هاشم بك وقفة الرجل الذي لا يمكن أن يفرط بولائه لخليفة المسلمين وإمامهم الأعظم في الأستانة، ولكنه في الوقت ذاته عرف أن الدولة تتهاوى وتحتضر ولا بد من أن يقوم محلها وجود سياسي منظم قوي ومؤلف من أهل البلاد لا من أعداء الأمة الإسلامية، فانضم الأتاسي إلى أكبر تلك المنظمات العربية المطالبة بحقوق العرب، العربية الفتاة، وأصبح أحد أعضائها البارزين ومن أركانها المؤسسين، وقد ضمت هذه الجمعية أكبر أعيان العرب كالأمير فيصل الهاشمي وإخوته، وزعماء أسر الذوات كآل الجابري وآل مردم بك وآل القوتلي وآل البكري وآل التميمي وآل العظم وآل الدروبي وآل العظمة وآل الكيلاني، وغيرهم من زعماء العرب، وهؤلاء كانوا هم المناضلون ضد التعسف التركي الذي مارسه العلمانيون-المسيطرون آنها على الدولة العثمانية- ثم وقفوا في وجه الإنتداب الفرنسي، وسموا "بالرعيل الأول"، والذي أصبح الأتاسي فيما بعد زعيمه الأول. وقد بدأ الأتاسي يصعد نجمه في جمعية الفتاة فأصبح عضو مجلس الشورى[6]، وكانت الفتاة قد باشرت عملها بسرية ثم خرجت على سطح الأرض بإسم حزب الإستقلال العربي في الشهر الثاني من عام 1919م[7]، فكان الأتاسي أحد أعضاء هذا الحزب. ولما تأسس البرلمان السوري الأول والمسمى "المؤتمر السوري"، والآتي ذكره، أضحى الأتاسي رئيس الكتلة البرلمانية للجمعية والتي أنشأتها الفتاة باسم حزب التقدم[8]. وهنا لا بد لنا من وقفة، فمع أهمية هذه المراكز التي أسندت إلى هاشم بك في نهايات عصر الدولة العثمانية لنزاهته وكفاءته، فإننا لا نراه -كما عرفناه أبدا-في طليعة الصف الأول، مع أولئك الذين كانوا يتخذون القرارت الحاسمة، بل لا نعرف عن مواقفه في خضم أحداث ذلك الزمن إلا اليسير. لقد بقي الأتاسي معتبرا نفسه من مواطني دولة الخلافة الإسلامية ومن رعايا خليفة المسلمين، وظل في قرارة نفسه يأمل لهذه الدولة أن تدوم وترجع إلى سابق قوتها وازدهارها، فكان يأبى أن يقدم على ما قد يندم على فعله في نهاية المطاف. ولكن بعد سقوط الدولة العثمانية وبداية الاحتلال الأوروبي نلحظ أن الأتاسي ظهر على الساحة السياسية ظهورا قويا حتى أصبح زعيم بلاد الشام من دون منازع، وأمسى على رأس أصحاب القرار في كل كبيرة وصغيرة.
وفي عام 1916م قامت الثورة العربية الكبرى، وخرج الأتراك من بلاد الشام، وأعلن الأمير فيصل الأول الهاشمي قيام الحكومة العربية فيها عام 1918[9]. وبعد عودة فيصل من مؤتمر الصلح في 5 آيار عام 1919م ومعرفة زعماء البلاد بقرار الولايات المتحدة بإرسال وفد تحقيق إلى سوريا لتجمع أراء الأهالي بشأن قرار مصيرهم، قرر هؤلاء إجراء الإنتخابات لقيام أول مجلس نيابي لبلاد الشام يكون أعضاؤه مندوبين عن الشعب، ضاماً ممثلين عن سوريا الحالية ولبنان والأردن وفلسطين، ليقوم بإبراز قضية السوريين للعالم، وإظهار رغبتهم في أن يكونوا حاكمي أنفسهم[10]، ففاز الأتاسي بعضوية المجلس، الذي سمي بالمؤتمر السوري، ممثلاً عن مدينة حمص، وكان النائب الآخر لحمص هو وصفي الأتاسي[11]، وبذلك فهما أول نواب الأتاسيين بعد استقلال سوريا عن الدولة العثمانية، وقد سبقهما إلى النيابة العلامة خالد الأتاسي، والد المترجم، في عهد العثمانيين.
وقد انتخب هاشم الأتاسي أيضاً رئيساً للمؤتمر السوري، وهنا تتباين الروايات التاريخية عن تاريخ انتخابه للرئاسة، ففحين يذهب وليد المعلم وسلمى الحفار إلى أن انتخاب الأتاسي جرى في أول جلسة عقدها المؤتمر في 7 حزيران (يونيو) عام 1919م والتي افتتحها الأتاسي بخطبة[12]، يرى بشور أن محمد فوزي باشا العظم، الوجيه الدمشقي، ووالد خالد العظم، أحد رواد السياسة السورية، كان قد انتخب رئيساً للمؤتمر قبل انعقاد مجالسه، ولكنه سرعان ما انسحب، فانتخب الأتاسي في أول جلسة رسمية عقدها المؤتمر، والتي كانت في 19 حزيران عام 1919م[13]. وفي رواية مشابهة يخبر يوسف الحكيم أن أعضاء المؤتمر انتخبوا العظم رئيساً وعبدالرحمن اليوسف نائباً للرئيس قبل انعقاد المؤتمر، ودعا العظم إلى قصره في دمشق من وصلها من الأعضاء، ثم اجتمع هؤلاء مرة أخرى في منزل عطا باشا البكري، ويبدو أن الاتجاه الوطني للنواب لم يتلاءم وأفكار العظم واليوسف، فانسحبا من العمل السياسي، ولما عقدت جلسة المؤتمر الأولى في 3 حزيران رسمياً برئاسة الشيخ رشيد رضا في مقر النادي العربي بدمشق انتخب الأتاسي بالاجماع رئيساً للمؤتمر ومرعي باشا الملاح ويوسف الحكيم نائبي رئيس[14]. أما الريماوي فترى أن العظم انتخب في أول جلسة عقدت في 7 حزيران 1919م، ولكن موقع الرئاسة كان قد شغر بوفاة العظم، فانتخب الأتاسي رئيساً للمؤتمر في اجتماعه في 6 آذار (مارس) عام 1920م[15]، ونحن نرجح ما يراه بشور والحكيم لما سيأتي بعد قليل عن اجتماع الأتاسي وبعض أعضاء المؤتمر في تموز عام 1919م بلجنة الإستفتاء الأمريكية، وهذا يعني أنه كان رئيساً للمؤتمر لأن رئيس المؤتمر هو الممثل الأول لرغبات أعضائه، وقد توصلت الباحثة ماري ألماظ شرستان إلى ذات الاستنتاج وأوردت الروايات المتباينة ثم أتبعتها بنقاش حول الوقائع والقرائن والمنطق السياسي انتهت فيه إلى ترجيح اختيار هاشم الأتاسي رئيساً للمؤتمر لا محمد فوزي العظم[16].
ومهما يكن، فإن الأتاسي كان أول رئيس للمؤتمر استطاع أن يضع شؤون الاستقلال قيد التنفيذ ويعلن عن رغبة الشعب بالوحدة والاستقلال الكامل والحكم الذاتي، ولا تذكر كتب التاريخ رئاسة العظم إلا قليلا، بينما تأتي على ذكر انتخاب الأتاسي للرئاسة كلما مرت على ذكر المؤتمر، وبذلك كان هاشم بك الأتاسي أول رئيس فعلي لمجلس نيابي عربي تشكل بعد جلاء الأتراك. وكان الأتاسي قد عقد جلسة المؤتمر في 8 آذار (مارس) عام 1920م، وافتتحه بتلاوة قرار تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على البلاد[17] وتقرر الإعتراف بسوريا الطبيعية دولة واحدة ومستقلة، وبالعراق دولة مستقلة، وعدم الإعتراف باتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور وأي انتداب[18].
وفي 3 تموز (يوليو) عام 1919م اجتمع رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي، ومعه واحد وعشرون نائباً مندوبين عن باقي الأعضاء، بلجنة الإستفتاء الأمريكية (كينج-كراين)، ونقلوا إلى اللجنة قرار المؤتمر والذي نص بمجمله على أن الحكومة السورية هي ملكية لا مركزية ومدنية ونيابية، وأن السوريين ليسوا أقل حظاً في الرقي من الشعوب التي قررت مصيرها بنفسها في البلقان، وأن المساعدة، إن كان لا بد منها، فمن الولايات المتحدة أو بريطانيا بدلاً عن فرنسا بشرط ألا يتعرض هذا لاستقلال البلاد، وأن المطالب الصهيونية في البلاد مرفوضة مع الحفاظ بحقوق الأقليات، وأن البلاد تطالب بالوحدة، وأن السوريين يطالبون بحقوق مماثلة للحقوق المعترف بها للعراق[19].
ثم كلف الأمير فيصل النواب، وقد زادوا عن الثمانين، بتأليف مجلس تأسيسي لوضع دستور البلاد، فانتخب الأتاسي رئيساً لهذا المجلس كذلك، وذلك في 10 آذار عام 1920م، فكان واضع الدستور العربي الأول، وانتخب ابن عمه، وصفي الأتاسي، عضواً في الهيئة الإدارية للمجلس[20]. وباشر أعضاء المؤتمر السوري بعقد الإجتماعات من أجل تحديد مواد الدستور، يشرف عليهم رئيس المجلس والهيئة الإدارية، قد نص هذا الدستور على استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، وعلى تنصيب فيصل ملكاً للبلاد، وعلى وراثية الملكية في العائلة الهاشمية[21]. وكان لهاشم الأتاسي فضل كبير في وضع الدستور، إذ يقول في ذلك الوطني الكبير، النائب محمد عزة دروزة، والذي كان قد انتخب سكرتيراً لللجنة الدستورية، في مذكراته: "وأريد أن أنوه بخاصة بهاشم الأتاسي الذي كان هو الآخر يراجع كتباً حقوقية افرنسية وتركية بالإضافة إلى دراساته الأولى، وكانت له آراء ومحاكمات سديدة وصائبة في تركيز مشروع الدستور"[22].
وفي جمادى الآخرة عام 1338 للهجرة الموافق لشهر آذار (مارس) عام 1920م عين الأمير فيصل رضا الركابي رئيساً للوزارة العربية الأولى[23]. وقد كانت هذه الوزارة ضعيفة قريبة من الرضوخ لمطالب الفرنسيين الإنتدابية، فلما رأت ذلك الجماهير السورية هاجت، وقرر المؤتمر حجب ثقته عن الحكومة، فاضطرت الوزارة الركابية إلى الإستقالة. وعهد الملك فيصل برئاسة الوزارة إلى رئيس المؤتمر السوري، هاشم الأتاسي[24]، الذي اضطر للاستقلال من رئاسته للمؤتمر. ومن الملفت للإنتباه أن قليلاً من يعرف أن الأتاسي تولى وزارة الداخلية بالإضافة إلى رئاسة الحكومة، وذلك قبل أن يسلمها لعلاء الدين الدروبي[25]. وإلى هذه الوزارة انتمى أيضاً: يوسف العظمة للحربية، وساطع الحصري للمعارف، وعبدالرحمن الشهبندر للخارجية، ورضا الصلح لرئاسة مجلس شورى الدولة، وفارس الخوري للمالية، ويوسف الحكيم للزراعة والتجارة والأشغال العامة، وكان تشكيل الحكومة هذه في 3 آيار عام 1920م واستمرت حتى 24 تموز عام 1920م[26].
ولما أعلن المؤتمر السوري استقلال البلاد وجه الجنرال غورو إنذاره الشهير للحكومة السورية في 14 تموز عام 1920م، فكانت وزارة الأتاسي، ثاني الوزارات السورية، وزارة حرب، أعلنت في 8 أيار بعد تأليفها في بيان تأييدها لاستقلال سوريا واستعدادها للدفاع عن حقوقها والمطالبة بوحدة سورية بحدودها الطبيعية ورفض طلب الصهاينة جعل فلسطين وطنا لهم وورفض كل مداخلة أجنبية، ودارت رحى معركة ميسلون الشهيرة، في 24 تموز 1920، والتي سقط فيها وزير الدفاع، البطل الكبير يوسف العظمة، شهيداً. واحتل الفرنسيون دمشق فانسحبت حكومة الأتاسي ليخلفها حكومة بقيادة علاء الدين الدروبي[27].
وعزل الملك فيصل وبارح البلاد في 29 من تموز 1920[28] واحتل الفرنسيون مدينة دمشق فعاد الأتاسي إلى حمص. وهناك أصبح من العقول المنظمة للثورة السورية الكبرى التي أعلنت عام 1925، ولما أعلن الوطنيون مقاطعة الإنتخابات التي أراد الفرنسيون إدارتها بقيادة المترجم عام 1925م اعتقل الأتاسي مع رفاقه الوطنيين: السيد وصفي الأتاسي واضع الدستور السوري، وجدي الأعلى السيد مظهر الأتاسي شقيق الرئيس الجليل وكبير أعيان حمص، ورفيق رسلان، ومظهر باشا رسلان، والسيد راغب الجندي، والسيد نورس الجندي، والسيد توفيق الجندي، والزعيم الخالد السيد سعدالله الجابري، والوطني الكبير فارس الخوري، والسيد طاهر الكيالي، وعثمان الشراباتي، ونجيب الريس، وربيع المنقاري، ونفي هؤلاء إلى جزيرة أرواد مدة ثلاثة أشهر عام 1926م (23 كانون الثاني-26 آذار)[29]، وما لبث أن أطلق سراحهم لما رأى الفرنسيون أن في احتجاز زعماء الوطن إثارة للمشاعر الوطنية عند الشعب قد تأتي بالأثار السلبية على سيطرتهم.
ثم قررت السلطة الفرنسية خوض مفاوضات مع الوطنيين، فكان الأتاسي ممثلاً للطرف الوطني مع الزعيم الكبير إبراهيم هنانو[30]. ولما لم تسفر المفاوضات عن ثمرات اجتمع زعماء البلاد ومنهم هاشم الأتاسي، وابراهيم هنانو، وعبد الرحمن الكيالي، وعبد الحميد الكرامي، وعبدالقادر الكيلاني، والأمير سعيد الجزائري، وفاخر الجابري، ومظهر رسلان، وعفيف الصلح، ونجيب البرازي، وإحسان الشريف، وعبدالله اليافي، وعبداللطيف بيسار، وعبدالرحمن بيهم في بيروت في 25 تشرين الأول 1927م[31]، وأسسوا "الكتلة الوطنية"، ومركزها دمشق، كحزب سياسي شعاره إعادة توحيد البلاد وتحقيق استقلالها، وانتخب هاشم كأول رئيسٍ للكتلة[32].
أعضاء الكتلة الوطنية في العشرينات يتوسطهم الرئيس الجليل هاشم
الأتاسي وبينهم مجموعة من الساسة أصبحوا فيما بعد رؤساء ورؤساء وزارة ووزراء
ونواب
وفي انتخاب رئيس الكتلة يقول الأستاذ يوسف الحكيم أن المؤتمرين انقسموا قسمين: "قسماً جنوبياً مؤلفاً من ممثلي دمشق ومحافظات حمص وحماة وحوران، وقسماً شمالياً يضم ممثلي حلب و شمالي سوريا. فأجمع القسم الأول، وهو يضم الأكثرية، على انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للكتلة، في حين كان القسم الثاني يرجح انتخاب ابراهيم هنانو. والفرق بين هذين الزعيمين، المتكافئين في عدة مزايا عالية، هو أن أولهما، الأتاسي، حسن الإدارة، لطيف المعشر، طويل الأناة، ويعتمد مشورة إخوانه في كل أمر، كما ثبت ذلك في سابق رئاسته للمؤتمر السوري ومجلس الوزراء، بينما كان الثاني حازماً، قوي الإرادة، متصلب الرأي، بطلاً في ميادين النضال والكفاح في سبيل الإستقلال"[33].
وفي 27 تموز (يوليو) عام 1927م نقل المفوض السامي الفرنسي، المسيو هنري بونسو (Ponsot)، رغبة الحكومة الفرنسية بقيام انتخابات لمجلس تأسيسي يمثل الشعب ويضع دستوراً للبلاد، وحدد موعد الاقتراع في 10 و24 نيسان عام 1928م، ففازت قائمة الكتلة الوطنية بزعامة الأتاسي فوزاً ساحقاً وضمنت هيمنتها على المجلس النيابي[34]. ولما عقد الاجتماع الأول في التاسع من حزيران (يونيو) انتخب الأتاسي رئيساً للجمعية التأسيسية، بينما انتخب ابراهيم هنانو رئيساً للجنة صياغة الدستور، والسيد فوزي الغزي مقرراً لها، كما أن الغزي حاز على أصوات الناخبين، بالإضافة إلى فتح الله آسيون، لمنصب نائب رئيس الجمعية[35]. وبذلك فإن هذا المجلس هو ثاني المجالس النيابية التي يترأسها الأتاسي، ودستور عام 1928م هو ثاني الدساتير التي يشرف على وضعها، وهو أول دستور سوري يضعه مندوبون عن الشعب بعد العهد الملكي الفيصلي.
وفي أوائل آب تم التصويت على مواد الدستور التي بلغ عددها 115 مادة، إلا أن المفوض الفرنسي، بونسو، طلب، في 9 آب، حذف مواد ست من الدستور، تنص في مجملها على وحدة البلاد السورية دون اعتبار لأي تقسيم جرى عليها، وتحديد سلطات رئيس الجمهورية ومجلس نوابه فيما يخض العفو والمعاهدات الدولية وتعيين المجلس الوزاري ورجال القانون، وتنظيم الجيش وإعلان الأحكام العرفية، فلما رفض المجلس الإذعان للمطالب الفرنسية قوبل بقرار توقيفه ابتداءً من 11 آب 1928م، ثم قرار آخر في أيار (مايو) 1930م بإضافة المادة 116 والتي كانت بمثابة إلغاء المواد المعترض عليها ووضع شؤون الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية تحت منظار المعاهدات الفرنسية الدولية[36]، ودارت بين بونسو والأتاسي مفاوضات عديدة بين عامي 1928 و1929م نقل فيها الأتاسي إلى بونسو رغبة الجمعية بإعلان وحدة البلاد، وبالرغم من تقديم الأتاسي إلى المفوض الفرنسي نصاً جديداً عن الوحدة في كانون الثاني 1929م لم يتم الإتفاق بينهما، وأعلن بونسو توقيف الجمعية إلى أمد غير محدد[37].
وبدأت الكتلة الوطنية تعقد اجتماعاتها لبحث التصعيد مع السلطات الفرنسية، فعقد المؤتمر الأول في حلب عام 1930، ثم عقد مؤتمر ثاني في عام 1931م، ثم 4 تشرين الثاني (نوفمبر) في حمص عام 1932، وفي هذا المؤتمر تم الإتفاق على النظام الأساسي للحزب، وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً مدى الحياة، وهنانو زعيماً، وسعدالله الجابري نائباً للرئيس، وشكري القوتلي وعبدالرحمن الكيالي وفارس الخوري أعضاءً، ثم عقد مؤتمر رابع في 16 شباط (فبراير) 1933 في حلب، وخامس في دمشق في 5 نيسان (إبريل) من العام ذاته[38].
وأثناء ذلك أراد الفرنسيون أن يكسبوا زعماء البلاد إلى جانبهم، فأعلن المفوض السامي إنشاء مجلس استشاري في 29 تشرين الثاني 1931م، يتألف من رؤساء الحكومة السابقين والغرفة التجارية ودول الإتحاد، وعين المفوض الأتاسي عضواً ورئيساً، ولكن إباء الأتاسي جعله يرفض الإنتماء إليه، ولم يكتب لهذا المجلس أن يجتمع سوى مرة[39].
وطفقت الكتلة الوطنية تنشر بياناتها المنادية بالإستقلال والوحدة للبلاد السورية وقيام حياة نيابية، ودأبت على بث الوعي القومي وتعبئة الرأي العام وتنوير الشعب والدعوة إلى الحماس الوطني، فكان من وسائلها في ذلك الخطب التي كان يلقيها زعماؤها أمام الجماهير، والمجالس التي كان تعقد في منازلهم، والمنشورات التي كان يوزعها شبابهم. ولمتابعة جهاد الرأي والقلم أسس زعماء الكتلة صحيفة وطنية تحت عنوان "اليوم" ثم تحت اسم "الأيام"، وقد حملت الآية {وتلك الأيام نداولها بين الناس} من سورة آل عمران، وظهر في أعلاها أسماء أصحابها: هاشم بك الأتاسي، وجميل مردم، ولطفي الحفار، وعفيف الصلح، وفخري البارودي، وعارف النكدي، وقد ترأس تحريرها الأخوان فارس وفائز الخوري، وإحسان الشريف، ونصوح بابيل، وهذا الأخير حصل على امتياز الصحيفة من أصحابها فيما بعد. وتعرضت الصحيفة إلى التعطيل مرات من قبل السلطات لما كان فيها من تحد لسلطتهم ودعوة إلى النضال الوطني. وفي هذه الصحيفة مارس كثير من رواد الصحافة السورية أعمالهم التحريرية الأولى فكان لها وقع على بروزهم ولمعان نجمهم، ومن هؤلاء عبدالغني العطري، ورشيد الملوحي، وفائز سلامة، ونشأة التغلبي، عبدالغني الأسطواني السفرجلاني، ونذير فنصة، وعبدالقادر عياش وغيرهم كثير[40].
وفي عام 1932 أعيد انتخاب الأتاسي للمرة الثالثة للمجلس النيابي، إلا أن تزويراً في الإنتخابات من قبل السلطات الفرنسية حال دون حصول مرشحي الكتلة الوطنية على أغلبية مقاعد المجلس، إذ لم يحظ بها منهم سوى 17 عضواً، فلم يتأت للأتاسي أن يفوز بانتخابات رئاسة الجمهورية مع انتخاب جميع نوابه له، وأدى التفاهم بين الأعضاء على انتخاب محمد علي العابد رئيساً بدلاً[41]. ولما لم تجر المفاوضات بين المفوض بين المجلس على هوى الأول، عطل المفوض في 24 تشرين الثاني عام 1933 انعقاد المجلس ودعم قراره هذا بالقوى الأمنية. فلما رأى النواب أن الحياة النيابية قد أوقفت إلى أجل غير مسمى تحدوا القرار وشكلوا لجنة لمتابعة العمل النيابي ضمت رئيس المجلس، صبحي بركات، وبعض أعضاء المجلس وهم الأتاسي وجميل مردم وفائز الخوري وعفيف الصلح ونسيب الكيلاني ونقولا جانجي ونوري الأصفري[42].
وفي عام 1934 نشبت حرب شعواء بين المملكة العربية السعودية واليمن سببها ضم السعوديين منطقة عسير إلى دولتهم وإيواء اليمن لأمير عسير الإدريسي الحسني الذي نظم معارضة واجه فيها الحكم السعودي، وفي خلال أسابيع قليلة اكتسحت قوات آل سعود معظم اليمن، وهنا ترائى لزعماء العرب أن يوفدوا عنهم مندوبين للتوفيق بين الملك عبدالعزيز بن سعود وبين إمام اليمن يحي حميد الدين، فتشكل وفد مكون من الزعيم الأتاسي عن سوريا، والأمير شكيب أرسلان عن لبنان، والحاج أمين الحسيني عن فلسطين، وعلي علوبة باشا عن مصر، فكانت رحلة موفقة، وتم الصلح بين العاهلين، وانسحب الجيش السعودي من اليمن بموجب معاهدة وقعها ابن سعود في 23 تموز (يونيو) من ذلك العام عرفت بمعاهدة الطائف، وعاد الأتاسي إلى بلاده محفوفاً بالتكريم والإستقبال، وكان ذلك في تموز، إلا أن السلطات حالت دون الاستمرار في الإحتفاء برجعتهم ونجاح مهمتهم[43]. وقد كان من عادة المملكة أن تهدي كساء الكعبة كل عام لأحد الزعماء المسلمين، فوقع اختيارهم على الأتاسي عرفاناً له بالجميل[44].
هاشم الأتاسي مع الملك فيصل بن سعود ورئيس الوزراء الأستاذ
فارس الخوري
وفي شباط من عام 1934م اجتمع أعضاء الكتلة الوطنية في حمص في منزل عميد آل الأتاسي آنذاك هاشم بك، وانتخبوه رئيساً للكتلة، وأصبح فارس الخوري نائباً، وجميل مردم بك سكرتيراً، وشكري القوتلي أميناً للصندوق، وسعد الله الجابري وعفيف الصلح عضوين[45].
وسرعان ما باشرت الكتلة عملها على نشر روح الوحدة السلمية وانشاء المكاتب لها في المدن المختلفة، فعقد أعضاؤها اجتماعاً في بعلبك في 21 تشرين الأول من عام 1935م برئاسة هاشم الأتاسي وقرروا البدء ببث أهداف الجمعية في نفوس السكان من أجل استقلال البلاد. إلا أن السلطات الفرنسية ممثلة في الكونت دي مارتيل، المفوض السامي آنذاك، قررت إغلاق مكاتب الحزب وقامت بالإعتقالات. فما كان من الكتلة الوطنية إلأ أن دعت إلى إضراب كبير في البلاد في 19 كانون الثاني عام 1936، وكان تجاوب الشعب لذلك فعالاً وكبيراً جداً فاستمر الإضراب 60 يوماً وتضمن جميع المرافق حتى المدارس والجامعات والأسواق والخدمات العامة والقضاء، وقامت المظاهرات والتي سقط فيها من أبناء الشعب المئات، واعتقل منهم المئات، وتداعى الشعب العربي والمسلم في كافة الأقطار إلى التعاضد مع الإضراب السوري، فأضرب طلاب الأزهر في مصر، وأرسلوا بعد إعلانهم الاضراب برقية احتجاج إلى عصبة الأمم تأييداً لسورية، وبعثوا كذلك إلى الأتاسي ببرقية قائلين: "نحيي فيكم الشجاعة الباسلة، ونشاطركم في جهادكم، فللشهداء الرحمة، وللزعماء التحية، وللشباب الإعجاب والتقدير"، وأرسل أعضاء مجلس الشيوخ العراقي ومجلس النواب مذكرات احتجاج إلى عصبة الأمم يؤيدون فيها الإضراب السوري، وزار وفد من الشيوخ العراقيين دار المفوضية الفرنسية ليسجلوا احتجاجهم، وأضربت المدن اللبنانية تضامناً وأرسلت برقيات احتجاج إلى عصبة الأمم باسم مدينة بيروت وطرابلس وصيدا وصور وجبلة وغيرها، وأضربت انطاكية، ودعا الحزب العربي الفلسطيني في القدس بالاضراب تأييداً للسوريين، وراحت البرقيات تنهال على الأتاسي من زعماء العالم العربي تعلن دعمها، ومن هؤلاء مصطفى باشا النحاس في مصر الذي قال في برقيته إلى الأتاسي: "أدمت قلوبنا حوادث سوريا، فأبعث إليكم وإلى القطر الشقيق باسم مصر خير ما تكنه نفوسنا من عطف على ما أصابكم في محنتكم وإعجاب بوطنيتكم واسترحام لشهدائكم، وأرجو من الله أن يكلل جهودكم بالفوز والفلاح"[46]. وأصدر زعيم الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي في 9 شباط (فبراير) بياناً باسم الكتلة يحمل الفرنسيين وانتدابهم مسؤولية أعمالهم ودعا إلى التمسك بالمطالب الوطنية والوحدة والاستقلال. وبدا بيناً أن القمع والعنف الذي مارسه الفرنسيون لم يأت إلا بالنتائج السلبية عليهم ولم يضعف من همة الوطنيين وزعماء البلاد، بذلك أُرغم الفرنسيون على إجراء المفاوضات تجاوباً مع التأييد العظيم الذي لقيته الكتلة الوطنية وزعيمها الأتاسي.
وفي أوائل شهر شباط (فبراير) عام 1936 تفاوض المفوض السامي الكونت دي مارتيل مع الزعيم الأتاسي وأخبره عن عزم الحكومة الفرنسية على استقبال وفد سوري للمساومة على معاهدة بين البلدين، فألقت الكتلة الوطنية في 28 شباط من ذلك العام بياناً في الإذاعة باسم رئيسها الأتاسي معلنة رغبتها بقبول العرض الفرنسي والمفاوضة على معاهدة تضمن حقوق واستقلال ووحدة البلاد السورية على غرار معاهدة العراق مع بريطانيا. ثم قام الزعيم الأتاسي، ومعه زعماء الكتلة وأعيان دمشق، وبحضور الملأ من الجماهير، بقص شريط الحرير الأخضر على باب سوق الحميدية، معلناً نهاية الإضراب التي كان قد دعت إليه الكتلة، وعادت الحياة إلى متاجر وأسواق المدن االسورية. وفي غرة آذار عام 1936م اجتمعت الكتلة في مقر المفوضية الفرنسية وحصل اتفاق بينها وبين المفوض الفرنسي والحكومة السورية على تشكيل وفدٍ يرأسه هاشم الأتاسي ويتألف من فارس الخوري وسعدالله الجابري وجميل مردم بك مندوبين عن الوطنين، وإدمون الحمصي والأمير مصطفى الشهابي ممثلين للحكومة، ونعيم الأنطاكي سكرتيراً للوفد ومستشاراً حقوقياً، وادمون رباط أميناً للسر، وأحمد اللحام خبيراً عسكرياً[47].
الوفد السوري برئاسة الأتاسي في طريقه إلى فرنسا يودع الجماهير
السورية المحتشدة
وفي 21 آذار من عام 1936م رحل الوفد إلى باريس من أجل المفاوضات، والتي دارت أولاً بين الوفد وبين رئيس وزراء الدولة الفرنسية آنذاك، ألبير سارو، وماطلت الحكومة حتى استقالت لتخلفها حكومة ليون بلوم، والتي أخذت على عاتقها التساوم مع الوفد السوري. وبعد التفاوض مع الفرنسيين وقع السوريون برئاسة الأتاسي والفرنسيون برئاسة المسيو فينو على المعاهدة في 9 إيلول عام 1936 بعد مفاوضات شاقة مع حكومات متعاقبة طيلة شهور ستة، وكان قد أضاف إلى مجموعة التواقيع الرئيس بلوم الحروف الأولى من اسمه، واحتفل بالتوقيع في مقر وزارة الخارجية الفرنسية في قاعة الساعة الشهيرة[48].
هشام الأتاسي في جنيف في 8 نيسان عام 1936م مع البرلمان
السوري-الفلسطيني
من اليمين: السيد الوزير النائب إحسان الجابري، رجل، هاشم
الأتاسي، أمير القلم والبيان شكيب أرسلان، رئيس وزراء سورية السيد سعدالله الجابري.
وقوفا: السادة الأشراف الدكتور عبدالقادر الجابري، عرفان الجابري، عون الله
الجابري
وفي أثناء وجود الوفد السوري في باريس قامت في أنحاء البلاد العربية تظاهرات شعبية خرج فيها ألوف من الناس يهتفون بحياة هاشم الأتاسي والوفد السوري، ففي حمص وباقي المدن السورية كان الناس يرددون الهتاف التالي: "هاشم بك يا عزيز، لا تنسانا في باريس"، وخرج الناس في عكار في تظاهرات انتشرت حتى جبل عامل ومروراً بطرابلس وبيروت وصيدا والنبطية والناس تردد: "هاشم بك الأتاسي، بباريس فاكر أو ناسي، أوعا تنسى مطلبنا، مطلبنا الوحدة السورية، ما تبيعوها بالكراسي"[49].
هاشم بك الأتاسي رئيس وفد الاستقلال السوري يوقع على المعاهدة
في باريس عام 1936
وقد اعترفت هذه المعاهدة الشهيرة باستقلال سورية، الأمر الذي اقتضى أن يتحول لقب المفوض الفرنسي إلى سفير يمثل بلاده وحسب، وبانضمام محافظتي جبل الدروز والعلويين إلى باقي المحافظات السورية. وعاد الوفد في أوائل تشرين الأول عام 1936م إلى بلاده بعدها معلناً إثمار المفاوضات وموافقة الفرنسيين على إنهاء الإنتداب، وفي أيديهم وثائق المعاهدة الشهيرة، وكان الإستقبال الشعبي للوفد كبيراً جداً إثر عودته، فقامت الاحتفالات في جميع المدن السورية وأرسلت جميع المدن والقرى الشامية والعربية وفوداً من أعيانها إلى دمشق لتهنئة الوفد السوري، وحل الفرح وعمت البهجة، ووقف الوفد على شرفات فندق بارون الشهير بحلب يستعرضون مواكب الشعب، فمر في فترة مقدارها أربع ساعات سبعون ألف رجل بالأعلام والرايات، وألقى الشعراء خطبهم وكان منهم الشاعر حليم دموس الذي جاء في قصيدته[50]:
على ضفافك لاح النصر يا بردى
وامسح دموعك وابسم للآلئ فتحوا
سلاحهم من نسيج الحق لحمته
فتح مبين وأيام محجلة
ومن تكن كرجال الوفد غايته
أدى إلى الوطن الغالي رسالته
وما انتهى ظفر إلا إلى ظفر
فصافح الوفد بل هنئ به البلدا
باب العرين وعادوا للحمى أُسُدا
وصوتهم من يقين المؤمنين غدا
عليهما علم استقلالنا عُقِدا
فكوثر الخلد يُسقى أينما وَرَدا
فما ونى عزمه يوماً وما قعدا
كالنسر يسمو إلى أجوائه صعدا
************************
في هدأة الليل صوت رن في أذني
وافى من الغرب نحو الشرق منتصراً
من أرض باريس للفيحاء يحرسه
ومن تؤيده الأرواح لا عجب
فسجلي يا دمشق اليوم سلسلة
الله أكبر! هذا وفدنا قد وفدا
من ضفة السين حتى ضفتي بردا
بعد المهيمن شعب قط ما رقدا
إن كان مقترباً أو كان مبتعدا
من المفاخر التي لا نحصي لها عددا
************************
يا أيها الوفد يا من لست أذكره
اليوم بدء جهاد العرب فاستبقوا
الأمس مر وهذا اليوم منطلق
أعيذكم من خلاف في سياستكم
إلا ذكرت مضاء السيف منجردا
إلى العلا وأعدوا للعلا عددا
فما الذي ستلاقيه البلاد غدا
فرُبَّ خلف رمى البغضاء والحسدا
وتم نشر نصوص المعاهدة في 22 تشرين الأول، وصادق مجلس النواب السوري على المعاهدة في 20 كانون الأول 1936م، ثم وقع عليها رئيس المجلس الوزاري جميل مردم بك، ووزير الداخلية والخارجية سعدالله الجابري، ووزير المالية والدفاع شكري القوتلي، وكان ذلك في 22 كانون الأول من ذلك العام، وكذلك فعل المفوض السامي الفرنسي الكونت دي مارتيل، إلا أن البرلمان الفرنسي والجمعية العمومية ومجلس الشيوخ راوغوا ولم يعطوا موافقتهم على المعاهدة بحجة عدم عرضها عليهم[51].
وكان المفوض السامي الفرنسي دي مارتيل قد دعا إلى انتخاب مجلس نيابي جديد ليدرس المعاهدة ويبت في أمرها، فانتخب الأتاسي نائباً عن حمص للمرة الرابعة ثم انتخبه النواب رئيساً للدولة السورية إثر فوز الكتلة الوطنية بالإنتخابات وإستقالة الرئيس محمد العابد في 21 كانون الأول عام 1936م[52].
طابع صدر عام 1936 وعليه صورة الرئيس الجليل
وفوجئ السوريون بعودة الفرنسيين عن كلمتهم وإلغاء الإعتراف بالمعاهدة بعد أن حل جابريال بيو محل الكونت دي مارتيل كمفوض سامي عام 1939م، ثم سُلب لواء الإسكنرونة من سوريا وأٌعطي لتركيا بموجب معاهدة أبرمها الفرنسيون مع الأتراك، فقرر رئيس سوريا آنذاك، هاشم الأتاسي، الإستقالة اعتراضاً في 7 تموز من عام 1939م[53].
وقامت الحرب العالمية الثانية في إيلول عام 1939م، ودخل الألمان فرنسا، ثم دخلها الحلفاء منتصرين على الألمان في حزيران 1941م، فأَرسل الجنرال ديغول إلى حمص قائد القوات الفرنسية في سورية، الجنرال كاترو، فزار الأخير الزعيم الأتاسي في منزله، وطلب منه أن يعود إلى منصب الرئاسة، وجرت مفاوضات بينهما حول إعادة الإعتراف بمعاهدة 1936، وحول إعادة مجلس النواب المنحل، وتمت الوعود من قبل كاترو بتحقيق إستقلال البلاد، إلا أن الأتاسي رفض العودة إلى سدة الرئاسة لفقدانه الثقة بالسلطات، وقد خالفت وعودها المبرمة من قبل. فاضطر الرئيس الجنرال ديغول أن يزور الأتاسي بنفسه في منزله بحمص، ولكن أماله بعودة الأتاسي لم تتحقق، فعهدت السلطات الفرنسية إلى الشيخ تاج الدين الحسني بالرئاسة مضطرة[54].
الرئيس الجليل أمام البرلمان السوري
ولما وافت المنية الرئيس الحسني عام 1943م أثناء رئاسته، زار شكري القوتلي وبرفقته فارس الخوري، الأتاسي في بيته بحمص بصفته رئيس الكتلة الوطنية، وطلب الإذن منه بترشيح نفسه لمنصب الرئاسة، فلقي كل التتشجيع والدعاء بالتوفيق[55]. وفي أواخر عام 1948م دعى الرئيس القوتلي هاشم الأتاسي لتأليف وزارة، فرضي الرئيس الجليل بذلك، وهو رفيق القوتلي في طريق كفاحهما الطويل، وكانت هذه هي ثاني الوزارات التي يدعى ليترأسها، لكن الأتاسي سرعان ما عاد عن قراره في تأليف الوزارة لما علم أن القوتلي ينوي تمديد فترة الرئاسة التي حددها الدستور، ولم يكن الرئيس الجليل ليقبل بأي تعديل على الدستور أو أي تجاوز عليه فاستنكف عن أن يشارك في الحكومة، فقام خالد العظم بتأليف الوزارة[56].
ولكن الأمر لم يستقر للعظم، إذ أن انقلاباً قاده حسني الزعيم في نهاية آذار 1949م أدى إلى إقالة الرئيس القوتلي ورئيس حكومته، ولكن انقلاباً في 14 آب من نفس العام بزعامة اللواء سامي الحناوي أزاح الزعيم وأدى إلى إعدامه ورئيس وزرائه محسن البرازي. ثم جمع الحناوي زعماء البلاد واستقر الرأي على إسناد رئاسة الحكومة إلى الرئيس الجليل "بوصفه زعيماً تاريخياً، ووطنياً يتمتع بحب واحترام الجميع"[57]، فتستعيد البلاد رشدها، وتخرج من تخبطها في فترة انتقالية يتم فيها إعادة الدستور المدني وإزالة الحكم العسكري. فكان من الأتاسي أن رضي بذلك تحقيقاً لأمن البلاد، وشكل الأتاسي وزارته الوطنية الثانية وقد مثلت فيها جميع الأحزاب.
وأشرفت وزارة الأتاسي على انتخابات لمجلس تأسيسي جديد يضع دستوراً للبلاد، فتشكل المجلس، وانتخبه رئيساً للدولة في 14 كانون الأول 1949م بصلاحيات وحقوق رئيس الجمهورية المنصوص عليها في دستور عام 1928م، وتم وضع دستور جديد للبلاد أثناء فترته الرئاسية الثانية، فكان ثالث دستور سوري يوضع على يده. ولما أكمل وضع الدستور انقلب المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً، وأعيد إنتخاب الأتاسي لرئاسة الجمهورية للمرة الثالثة في 9 إيلول عام 1950م[58]. وفي المجلس النيابي توالت التهاني على الأتاسي من النواب والخطب حتى أتى دور أمين سر المجلس ونائب صافيتا، الدكتور عبداللطيف اليونس، فأنهى خطاب تهنئته بقول الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها | ولكن لأنفسهم كانت بك الأثر |
فما كان من الأتاسي إلا أن قام من مقعده وأقبل على منصة الخطابة فعانق اليونس متأثراً، وأخبره أن هذا هو أعظم بيت شعر قيل[59].
وقد كان أديب الشيشكلي قد قام بانقلاب أثناء الفترة الرئاسة الثانية للأتاسي، وذلك في 19 كانون الأول عام 1949. وانتخب الرئيس ثالثة والشيشكلي هو الحاكم العسكري للبلاد[60]. وقامت محاولات كثيرة لتشكيل وزارات باءت بالفشل لتدخل الجيش المستمر. ولما ألف الدكتور معروف الدواليبي وزارته في 28 تشرين الثاني 1951 محتفظاً بوزارة الدفاع، بالرغم من إرادة الجيش السيطرة عليها[61]، قام الشيشكلي بانقلابه العسكري الثاني في الأيام التالية واعتقل رئيس الوزراء الدواليبي وغالب أعضاء حكومته. ولما رأى الأتاسي أن الجيش قد تمادى في فرض سلطته قدم استقالته للمجلس النيابي وعاد إلى حمص في أوائل كانون الأول عام 1951م[62]. ويذكر الصحفي، عدنان الملوحي، والذي ترجم للرئيس الجليل في كتابه "وطنيون وأوطان"، تلك الليلة التي وقع فيها الإنقلاب فيقول:
"وأذكر مرة كنت في القصر الجمهوري أتابع عملي الصحفي، وكان انقلاب قد وقع في الليل، ورأيت الرئيس الجليل هاشم الأتاسي يسير على قدميه عند طرف القصر وهو ينتظر السيارة التي ستحمله إلى مدينته حمص بعد أن رفض البقاء لحظة في رئاسة الجمهورية بعد وقوع الإنقلاب، رغم أن أشد وأقسى وأغلظ الدكتاتوريين والإنقلابيين على الإطلاق، وهو الشيشكلي، لم يجرؤ على مواجهة الرئيس هاشم الأتاسي بفعلته ولم يقرب القصر الجمهوري برجاله وقواته، ولكن الرئيس هاشم الأتاسي مع ذلك، ولشدة حرصه على النظام الديمقراطي وإيمانه به، رفض البقاء في القصر، وعندما بدأت السيارة بالخروج من القصر، أشار إلي، رحمه الله، بيده، فتقدمت منه فقال لي كلمته التي ماأزال أذكرها جيداً: (إذا شئت أن تزور بلدك حمص فلا تنس أن تزورني). ومضى يومئذ بسلامة الله وقلوب كل الشعب معه ومع موقفه من الدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعب وسلامة البلاد وسيادتها وكرامتها. وكان الرئيس الجليل هاشم الأتاسي كلما آنس توقف الإنقلابات والمغامرات، وظن أنها انتهت ولن تعود يومئذ، يقبل العودة إلى رئاسة الجمهورية كمرحلة انتقالية وحل للمشكلة، ريثما تجري انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة وتعود البلاد إلى الحياة الديمقراطية وإلا عاد من جديد إلى مدينته حمص وإلى منزله فيها حيث يجد الطمأنينة والراحة والخلاص من وجع الرأس"[63]، انتهى الكلام للملوحي.
ولكن الأتاسي لم يقف مكتوف الأيدي، بل حمل لواء المعارضة من بلدته حمص، وشجع شبان الجيش وباقي الفئات والأحزاب على التمرد وإعادة الحياة المدنية، وكانت جريدة ابن أخي المترجم، فيضي الأتاسي، السوري الجديد الصادرة في حمص، وذلك بمباركة الزعيم الأتاسي، تعارض الشيشكلي، والذي نصب نفسه رئيساً للدولة. وبذل هاشم الأتاسي ما بوسعه ليعزل الشيشكلي عن باقي الدول العربية، فأرسل إلى الحكومات العربية ينبههم ويعلمهم بأن زعماء البلاد الحقيقيين غير راضين عن حكم الشيشكلي، وإلى جامعة الدول العربية يناشدهم بالتدخل قبل أن يمتد إليهم تأثير الدكتاتور السلبي[64]. وفي 4 تموز 1953م عُقد المؤتمر الشهير بزعامة الأتاسي، وفي منزله، حضرته كافة الأحزاب وأمه المبعدون، فكان من الحاضرين ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني، وممثلين عن الزعيم سلطان باشا الأطرش، وتم الإتفاق على إنهاء حكم الشيشكلي المستبد، وعدم الإعتراف بسلطته من الناحية الشرعية، وأضاف الحاضرون تواقيعهم على ما عرف "بالميثاق الوطني" الشهير[65].
ثم أضاف الرئيس الجليل توقيعه، وفي ذلك يقول لطفي الحفار: "أما الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، الذي لجأ إليه وإلى حكمته وخبرته هؤلاء الرجال، فقد وافقهم على نصه وذيله بالكلمة الآتية وبتوقيعه:
(لما كانت الأوضاع القائمة في سورية منذ تسعة عشر شهراً قد أشاعت القلق في النفوس، وكان إعلان المسؤولين فيها عن اعتزامهم وضع دستور جديد لها قد زاد في القلق والإضطراب، ولما كان من حق كل مواطن، بل من واجبه، أن يهتم بشأن بلاده، وأن يحسب حساباً للمغارم التي تترتب على مثل هذا الأمر الخطير،فإن طائفة من رجالات البلاد المعروفين بقديم بلائهم وسابق عملهم في حقل الوطنية والقومية العربية قد تنادوا إلى النظر فيما آلت إليه حال البلاد، ثم اجتمعت كلمتهم على هذا البيان وذيلوه بتواقيعهم. وإني كنت على اتصال بسعي هؤلاء العاملين المخلصين، فأعلن بصراحة أنهم مارسوا حقاً طبيعياً ومقدساً لكل مواطن وقاموا بواجب تندبهم إليه الوطنية، والحرص على تفادي الأخطار التي تتعرض إليها البلاد. وتبعاً لما تقدم فإني أعلن تأييدي للبيان تأييداً تاماً مطلقاً في غير تقيد ولا تحفظ، والله سبحانه ولي التوفيق
في 20-6-1953 هاشم الأتاسي)"[66].
وفي هذا الميثاق قرر المجتمعون مقاطعة الإنتخابات التي أراد الشيشكلي إجراءها في تشرين الأول من ذلك العام، وتأليف لجنة مركزية للتنظيم وتوجيه الشعب، وطالب المؤتمرون الشيشكلي بتأليف وزرارة ائتلافية ضامة جميع الأحزاب ما عدا الحزب الذي أنشأه هو (حركة التحرير العربي)، وأن تشرف هذه الوزارة على وضع دستور جديد، وكذلك طالبوه بفك الحصار عن الصحافة والتعددية الحزبية. فما كان من الشيشكلي إلا أن اعتقل جميع المؤتمرين في 24 كانون الثاني عام 1953م، ومن بينهم كل زعماء الأحزاب السياسية المختلفة، إلا زعيم الميثاق الوطني، هاشم الأتاسي، الذي فرض عليه إقامة جبرية في منزله، وذلك لمكانة الأتاسي الكبيرة بين الشعب، ومنزلته العظيمة التي كانت تمنع أياً كان من مواطنيه من اعتقاله[67].
وفي 25 شباط 1954 قاد أمين أبو عساف، وفيصل الأتاسي، ومصطفى حمدون انقلاباً على الشيشكلي بتحريض من الرئيس الجليل، ونفوا الدكتاتور إلى خارج البلاد[68]. واجتمع المنقلبون وزعماء البلاد والسياسيون (الذين أطلق سراحهم من سجون المزة بعد أن زجها بهم الشيشكلي) في حمص التي عجت بهم، وباركوا للرئيس الجليل صموده، وطلبوا منه العودة إلى زمام الحكم الشرعي، فرضي الرئيس الجليل وعاد إلى دمشق، فاستقبل بحفاوة بالغة رسمية وشعبية وقامت الإحتفالات الترحيبية بعودة زعيم البلاد المحبوب[69]. وألقى الأتاسي خطاباً باسم الجبهة الوطنية التي تزعمها لمواجهة الشيشكلي، فشكر الجيش ونوه بوطنية قواده الذين قاموا بالإنقلاب، وعدد مساوئ حكم الشيشكلي وذكر تأييده لإرادة الشعب والجيش التي اقتضت الإطاحة بالطاغية[70].
ونترك الحديث هنا للعطري الذي ترجم بإسهاب للرئيس الجليل فقال:
"وحين انتهى عهد الشيشكلي في 25 شباط 1954 اجتمعت الأحزاب ورجال السياسة في منزل هاشم الأتاسي بحمص، وطلبوا منه بالإجماع العودة إلى الحكم، ليكمل مدة رئاسته الدستورية. ومن أجل مصلحة الوطن، وافق الرئيس الأتاسي على هذا الطلب، رغم أنه كان في سن متقدمة جداً، وكان قد تجاوز الثمانين. واستمر هاشم الأتاسي في رئاسته حتى السادس من إيلول 1955م، وفي هذا التاريخ جرت أول عملية انتقال دستوري للسلطة في البلاد، للرئيس شكري القوتلي، الذي كان قد جرى انتخابه من قبل المجلس النيابي. وقد أوصاه الرئيس الأتاسي أن يكون حارساً أميناً على وحدة واستقلال ودستور ومصلحة البلاد.
هاشم الأتاسي يستقبل الأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا إليزابث
في حدائق القصر الجمهوري بدمشق
وانسحب الرئيس والزعيم المحنك، الوطني، الحكيم، من ساحة العمل السياسي للمرة الأخيرة، وعاد إلى مدينته حمص. ورحل هاشم الأتاسي إلى جوار ربه في السادس من كانون الأول عام 1960م ووري الثرى في حمص، مدينته العزيزة الغالية.
لقطات من حياته وأعماله (والكلام لا يزال للعطري):
· في عهد هاشم الأتاسي تأسس مكتب تفتيش الدولة، وقد تم فيه تعيين عدد من المفتشين الموثوقين، بينهم ابنه الأستاذ رياض الأتاسي. وقد أمر الرئيس الأتاسي بمنحهم جميعاً درجة ترفيع تشجيعاً وتقديراً لهم، ولكنه استثنى ابنه المرحوم الأستاذ رياض من هذا الترفيع كيلا يقال أنه منح الآخرين الترفيع كي يحصل ابنه على الترفيع.
· كان هاشم الأتاسي هادئاً ودمثاً ورقيقاً في معاملته لجميع الناس، ولكنه لم يكن يسمح لأحد من ذوي النفوذ أن يتدخل في صلاحياته أو يتطاول عليها. وحين جاءه ذات يوم العقيد أديب الشيشكلي مع عدد من الضباط، وكانوا مسيطرين على الجيش سيطرة تامة، قدموا له عدداً من الطلبات، متجاوزين فيها الدستور والقانون وصلاحياته، غضب الأتاسي، ورفع عصاه في وجوههم، وطردهم من مكتبه.
· رغم دماثته ورقة حاشيته، كان يكره أشد الكره النفاق والتزلف والمصانعة، وكان يعرض ويظهر استياءه لمن يمارس أمامه هذه الصفات البغيضة.
· أقدم الفرنسيون على اعتقاله أيام الإنتداب الفرنسي ونفوه إلى جزيرة أرواد تجاه طرطوس، لكن أحداً من الضباط الذين قاموا بانقلاباتهم لم يجرؤ على اعتقاله، بسبب مكانته الكبيرة في سورية وسائر الأقطار العربية.
· افتتح المغفور له هاشم الأتاسي معرض دمشق الدولي الأول في العام 1954م.
· في عهد رئاسته الأولى (1936-1939م) تأسس اتحاد نقابات العمال بشكل قانوني عام 1936.
· وفي عهد رئاسته الأولى أيضاً تم إعادة بناء سد بحيرة قطينة وبناء قنوات الري المتفرعة من السد لدى سهول حمص وحماة، وكان سد البحيرة القديم قد بني في العهد الروماني.
· كذلك تم بناء خط حديد ميدان-اكبس حتى الحدود العراقية.
· لدى إعلان الوحدة العربية بين سورية ومصر ذهب هاشم الأتاسي يهنئ الرئيس جمال عبدالناصر بالوحدة حين قدومه إلى دمشق، فاستقبله عبدالناصر على باب قصر الضيافة، ورحب به أجمل وأحر ترحيب.
· عندما انتهت مدة رئاسته الثانية[71]، وبعد الإجراءات الرسمية لعملية تسليم السلطة واستلامها، أقيم له احتفال رسمي وعسكري وشعبي حاشد في منطقة القابون. ثم رافقته إلى حمص حشود غفيرة من المواطنين ومئات السيارات الصغيرة والكبيرة. وفي حمص جرت له حفلات استقبال تكريمية من مختلف فئات الشعب، شملت جميع أحياء المدينة، واستمرت أياماً كاملة"[72]. انتهى هنا الكلام للأستاذ العطري.
قلت: وللأتاسي مواقف كثيرة يذكرها معاصروه تدل على نزاهته وشرف زعامته، ولا أدل على هذا من موقف الرئيس الجليل من خصم الكتلة الوطنية السياسي الوطني المرحوم الدكتور عبدالرحمن الشهبندر الذي عاد من منفاه بعد تولي هاشم بك رئاسة الجمهورية عام 1936م، ورأى الكتلة الوطنية قد تزعمت الحركة الوطنية في البلاد وسارت في نضالها من غيره في فراح رحمه الله يهاجم مشروع معاهدة عام 1936 في بياناته وخطبه، فما كان من السيد سعد الله الجابري وزير الداخلية والخارجية إلا أن أمر بالقبض عليه ونفيه إلى الزبداني تحت الإقامة الجبرية دون إعلام رئيس البلاد، يقول المرحوم أسعد الكوراني في هذا: "وقد سمعت من فائز الخوري أن هاشم الأتاسي أخطر سعدالله الجابري بوجوب إطلاق سراح الدكتور شهبندر، وإلا ذهب إلى الزبداني بسيارة الرئاسة الأولى وعليها علم البلاد ومعه مرافقه وعاد بالدكتور شهبندر إلى دمشق وأطلق سراحه جهارا"[73].
ومن أمثلة اهتمامه برعاياه -وخاصة أولئك الذين لهم تاريخ في النضال الوطني- توسطه لدى طبيب قلب ألماني مشهور ليقوم الأخير بعلاج الزعيم السوري الثوري الكبير، صالح العلي، لما مرض، وكان الطيبب المذكور قد اعتذر عن معالجة العلي لما فاتحه بالأمر بعض أصدقاء العلي من النواب، فما كان من الرئيس الجليل إلا أن طلب من الطبيب أن يرى العلي، والأتاسي هو رئيس البلاد وزعيمها الأول، فبادر الطبيب إلى التوجه إلى البلد التي كان الزعيم العلي يقيم فيها، وقد تأثر بتواضع الأتاسي واهتمامه برعاياه، وقام بالإعتناء بالمريض[74]. ولما توفي العلي عام 1950 أجرى له الرئيس الجليل حفلا تأبينيا في اللاذقية بمناسبة الأربعين حضرها رئيس الوزراء وبعض الوزراء وكبار الشخصيات عرفانا بفضله وبطولته في حربه على الفرنسيين[75].
ويذكر نائب صافيتا عبداللطيف اليونس في مذكراته مواقف عديدة للأتاسي تدل على نواياه النظيفة واحترامه للقانون ولسدة الرئاسة فأخبر عن موقف الأتاسي لما اغتيل العقيد عدنان المالكي، وأراد بعض زعماء الجيش، ومن بينهم الطاغية عبدالحميد سراج، أن يتخذوا من هذا الحدث ذريعة فيباشروا باعتقال من أرادوا ويرموا بهم في السجون دون محاكمة أو سبب ويمارسوا أنواع التعذيب بخصومهم، وضغط هؤلاء على رئيس وزراء الأتاسي، صبري العسلي، ليقوم بإعلان الأحكام العرفية، فاضطر الأخير إلى تجهيز المرسوم، وذهب به إلى القصر الرئاسي ليحصل على توقيع الرئيس الجليل، فلما اطلع الرئيس الأتاسي على المرسوم وأدرك ما يرومه هؤلاء وقف وترك كرسيه صارخاً في وجه العسلي، رئيس الوزارة، بصوت متهدج: "أنتم تحبسون الناس وتعذبونهم دون قانون! أتريد أن تحملني مسؤولية جرائمكم؟ هل لك أن تدافع عني عند الله؟"، وتقدم منه، وهو الكهل الطاعن بالسن وصار ويؤنبه، حتى أوصله إلى السلم، ويتابع اليونس فيقول: "وهناك ارتمى رئيس الجمهورية العجوز على الأرض، وحدث معه انفجار في دماغه. وكنت (أي اليونس) في وفد، مع بعض الزملاء، خارج البلاد، فاستدعينا بسرعة لتدارك موضوع الرئاسة مع بقية النواب، لأن الرئيس الحالي لم يعد قادراً على ممارسة واجباته الدستورية. ومن عجائب القدر أن الرئيس الأتاسي قد شفي بعد عشرين يوماً من حادث الجلطة الدماغية، وعاد لممارسة أعماله في القصر الجمهوري كالمعتاد، وكأن شيئاً لم يحدث! حقاً إن للقدر تصرفاته الغريبة، وحقاً أن للنوايا الطاهرة أثرها وتأثيرها في مجرى حياة الإنسان!"[76].
ومن نزاهة الرئيس أيضاً أنه مانع عمل بعض الرعاع من الضباط من مؤيدي خالد العظم، من توجيه الإهانات والكلمات الرذيلة للرئيس القوتلي (مع أن الأخير كان خصمه السياسي)، والذي كان قد انتخب رئيساً إثر قرب موعد انتهاء مدة الأتاسي عام 1955م، فلما علم بذلك الأتاسي، وقد كان في اجتماع مع بعض الشيوخ في منزل أحدهم، عاد رأساً إلى قصر الرئاسة واستدعى رئيس أركانه وهدده بإصدار مرسوم بإقالته إن لم يقم باعتقال الضباط وضبط أفعالهم، فقام رئيس الأركان بحبس هؤلاء في مبنى وزارة الدفاع[77].
ومن شدة نزاهته أنه كان رحمه الله لا يرضى أبداً أن يستعمل ممتلكات الدولة لأغراضه الشخصية أو أغراض أسرته حتى في ألزم الأمور وأحرج الأوقات بل وحتى في أبسط الشؤون التي قد لا يعيرها غيره بالاً من حاكم أو محكوم. حدثني السيد أحمد نشوان بن محمد صدر الدين بن مفتي حمص محمد توفيق بن مفتي الديار الحمصية عبداللطيف أفندي بن مفتي الديار الحمصية محمد أبي الفتح الثاني الأتاسي -حفظه الله- قال حدثني والدي المرحوم صدر الدين عن حادثة وقعت في فترة رئاسة المرحوم هاشم بك الأولى للبلاد (1936-1939م) لما كان المرحوم والدي صدر الدين طالباً بكلية الحقوق بدمشق، ففي ليلة من ليالي عام 1937م وصلت إلى دمشق قادمة من حمص السيدة وردة شان بنت المفتي عبداللطيف بن محمد الأتاسي زوجة الرئيس الجليل، ومعها ابنة أخيها السيدة أميرة بنت المفتي توفيق بن عبداللطيف بن محمد الأتاسي والتي كانت زوجة السيد سري ابن هاشم بك ، فمرتا على السيد صدر الدين في غرفته التي كان يقيم فيها، ثم غادرتا إلى القصر الجمهوري حيث كان الرئيس الجليل. وبعد قليل إذا بهاتف من القصر يطلب من المرحوم صدر الدين أن يقصد القصر على وجه السرعة، فلما وصل إليه وجد الرئيس الجليل يجوب القاعة ذهاباً وإياباً وعلى وجهه علامات التوجم والحزن، وإذا بعمته وأخته السيدتين وردة شان وأميرة تبكيان، فقيل له أن خبراً بوفاة السيد سري ابن الرئيس الجليل (وهو ابن السيدة وردة شان وزوج السيدة أميرة)، قد وصل لتوه من مدينة حمص، وهو بكر أبيه وفلذة كبده. عندها طلبت السيدتان من المرحوم صدر الدين سراً أن يتوسط لدى الرئيس الجليل ليسمح لهم بأخذ سيارة القصر الجمهوري إلى حمص على السرعة في ذلك الوقت من الليل الحالك، فلما صارح المرحوم صدر الدين رئيس البلاد بذلك الطلب احتقن وجه الرئيس الجليل حمرةً وأجاب: وهل سيارة القصر ملك لأبي؟ بل تطلب لهما سيارة أجرة (تاكسي) وتذهب بهما إلى حمص! فلما سألوا هاشم بك أن يرافقهم إلى حمص حيث توفي ابنه البكر رفض قائلاً أن موعداً له مع بعض المسؤولين لمناقشة أمور البلاد لا يمكن تأجيله، فاضطر الجميع إلى المغادرة إلى حمص في سيارة أجرة تاركين وراءهم الرئيس الجليل متحسراً على ابنه الشاب حزناناً يتفطر قلبه، ولكنه علم أن مسؤولية الشعب الواقعة على كاهله هي أولى من مسائل شخصية وإن كانت تلك مسألة وفاة ولد من أولاده! وفي اليوم التالي قصد الرئيس الجليل حمصاً ليكون مع أهله وأسرته في هذه الفاجعة.
وقد أخبرني عدد كبيرمن الناس قصصاً مشابهة وأن الأتاسي كان يرفض كل الرفض أن يركب سيارة القصر إلا إن كان متجهاً إلى جهة له فيها عمل رسمي كرئيس للبلاد، وكان لا يرضى أبداً أن يركب فيها أحد من أسرته أو أقاربه، بل كان إذا أراد مغادرة القصر إلى منزل أحد أصدقائه أو إلى مدينته حمص بعد تقديم الاستقالة من رئاسة الجمهورية كان يطلب من أحد أقاربه أن يأتي بسيارة لأخذه إلى وجهته، وقد حدثتني والدتي وجدتي لوالدتي السيدة عصام بنت مظهر أفندي بن المفتي خالد الأتاسي حفظهن الله أن هاشم بك كان كثيرا ما يركب مع جدي لوالدتي المرحوم زهير بن عبدالحميد آغا الدندشي لما كان يقصد وجهة غير رسمية، وكان جدي المرحوم يحبه حبا شديدا، رحمهما الله. وكم مشى الرئيس الجليل في الأسواق وبين الناس وهم يحيوه وهو يرد تحيتهم وسلامهم ويجالسهم ويتحدث إليهم.
حدثني جدي وسيدي وقدوتي حفظه الله وسلمه وأطال في عمره زياد بن خليل بن مفتي الديار الحمصية محمد خالد الأتاسي، غير مرة، قال: كنت وابن عمي المرحوم الدكتور عدنان بن هاشم بك الأتاسي في بيروت ذات يوم وإذا بنا نلتقي بالصدفة بسائق سيارة القصر الجمهوري، فسألناه ما الذي أتى به إلى بيروت فأخبرنا أن عطلا قد طرأ على سيارة القصر ولم يكن يمكن تصليحه إلا في الوكالة التي كانت آنها في بيروت، ولما علم السائق أننا راجعون إلى دمشق قال لنا: اركبوا معي سيارة القصر أوصلكم إلى دمشق، قلت: هنا عادة يضحك سيدي الجد ويقول: فتشاورت مع المرحوم عدنان ورأينا أنه لا ضرر من ركوب السيارة مع السائق خاصة أنها عائدة أدراجها إلى دمشق، ركبناها أم لم نركبها، واتفقنا على ركوب السيارة حتى حدود دمشق ثم ننزل هناك ونأخذ التاكسي حتى لا يرانا أحد في سيارة القصر الجمهوري فيصل الخبر إلىعمي هاشم بك، لأن عمي كان لا يرضى أبدا أن يركب السيارة أحد من أقاربه حتى أولاده لأن السيارة ووقودها كلها من نفقات الدولة، ولا يمكن لهذه النفقات إلا أن تستخدم في خدمة الدولة، ولو علم أننا ركبنا سيارة القصر لغضب علينا غضبا رحمه الله! فهذا ابن رئيس الجمهورية وابن أخيه لا يسمح لهما رئيس البلاد استخدام ممتلكات الدولة بغير حق، وما بالك برئيس للبلاد كهاشم بك لو طلب من أهل الشام ممتلكاتهم وأموالهم لقدموها له دون تردد.
ويروي الأستاذ مصباح الغفري في مجلة صوت العراق نموذجا من نزاهة الرئيس الأتاسي ورفضه البات للتعامل بالرشوة في عصر أصبحت النزاهة فيه أمرا نادرا فيقول: "عندما كان هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية، جاءه ذات يوم وزير المالية، حاملا ً مشروع الميزانية السنوية ليطلعه عليه، وكان هاشم بك رحمه الله حيسوباً كما يروون عنه، يدقق بالأرقام، وقرأ في موازنة رئاسة الجمهورية فقرة بعنوان: المخصصات السرية، ولم يكن تحت هذا العنوان أي مبلغ، فسأل وزير المالية عن ذلك، أجاب الوزير: هذا البند يا فخامة الرئيس يترك فارغاً لتحددوا الرقم الذي تريدونه للمصــاريف السرية. وتساءل هاشم بك: وما هي هذه المصاريف السرية؟ وراح وزير المالية يشرح لفخامة الرئيس الأتاسي، قال له، إن العادة جرت على تخصيص مبلغ لرئيس الجمهورية، يصرفه بمعرفته وعلى مسؤوليته السياسية، دون حاجة لمستندات صرف، وضرب له مثلاً بما يدفعه الرئيس للصحفيين السوريين أو الأجانب، أو ما يدفعه لبعض الناس لقاء القيام بأعمال أو مهمات، ضحك هاشم بك، شطب بالقلم على بند المصروفات السرية وقال للوزير: أنا رجل لا أقبض من أحد، ولا أدفع لأحد! كان بند المصاريف السرية آنذاك متواضعاً جداً، ومع ذلك فقد رفض الرئيس الأتاسي الموافقة عليه". انتهت عبارة الغفري[78].
بل أعظم بأخلاق زعيم قد أشاد بها أكابر العلماء العاملين أمثال شيخ العصر العلامة القاضي الأديب الأريب الداعية على الطنطاوي عليه رحمة الله، فهاهو يقول في مذكراته:
"كنا جميعا نشتغل مع الكتلة الوطنية التي كانت هي قائدة النضال للاستقلال فلما كانت المعاهدة ودخل رجال منها الحكم، بدلت الكراسي بعض هؤلاء الرجال، فخابوا في الحكم بمقدار ما نجحوا في النضال. لا ليسوا سواء، منهم جماعة كانت ضمائرهم أغلى من أن ترخصها الاقذاء تعلق بها، ونفوسهم أعلى من أن تصل اليها المطامع تهبط بها..." إلى أن قال: "أما هاشم الاتاسي فقد كان خيرا منهم، بقي بابه مفتوحا للجميع، وبقي أبا للجميع، لم تختلف حياته وهو رئيس عما كانت عليه قبل أن يكون هو الرئيس، حتى الشرطي الذي وقفوه على باب داره قال له يوما، وأنا أسمع، عشية ليلة باردة، يا ابني رح الى أهلك وأولادك فاسهرمعهم ونم عندهم، فانها ليلة باردة، وأنا لا أحتاج اليك، فالحامي هو الله، فلما تردد أكد عليه الكلام وشدد الامر حتى انصرف، فما كاد يبتعد حتى ناداه، ومشى اليه خطوات، فأعطاه بعضا من المال ليأخذ به شيئا معه الى عياله. كان هاشم بك يجول كل عشية جولة في أطراف البلد بسيارته، ليس أمامه حرس، ولا وراءه جند، وكان يصلي في مسجد المرابط القريب من القصر الجمهوري بالمهاجرين-والقصر كان في دار الوالي ناظم باشا الذي أنشأ حي المهاجرين- فكانوا يبعثون له من القصر قبل صلاة الجمعة من يمد له سجادة صغيرة يحفظ له مكانه في الصف الاول، فيجيء حسن آغا المهايني، الذي ترك حي الميدان وسكن في طرف المقهى في ساحة آخر الخط -أي آخر خط المهاجرين- فيترك المسجد كله ليصلي على هذه السجادة ولا يقوم عنها، فلما كثر ذلك منه جاءه الشرطي يسأله أن يقعد في مكان آخر، سأله بلطف ولين، فيصرخ الآغا بأعلى صوته: يا ابني هذا بيت الله، و كلنا عباد الله، فليس لأحد من العبيد أن يفضل نفسه على غيره في بيت سيده الا باذنه، إن المسجد يا ولدي لا يحجز فيه مكان لأحد، من سبق كان هوالأحق بالمكان"[79]. انتهت عبارة الشيخ الطنطاوي رحمه الله.
ومن قبيل ذلك أيضا رواية حدثني بها السيد المهندس جابر بن برهان الدين بن ابراهيم بن محمد الأتاسي في مدينة جدة، قال حدثني السيد مسعف بن ناظم بن سليمان بن عاكف بن أمين الأتاسي فقال: كنت في خدمة العلم بالسويداء فإذا الأيام تجمعني بسائق هاشم بك رحمه الله لما كان رئيسا للبلاد، فلما علم السائق أنني من آل الأتاسي ترحم على الرئيس وقال: والله لقد مللنا من أكل المجدرة[80] –دليلا على تقشف الرئيس الجليل ومشاركته طعامه مع موظفيه- ثم روى لي أنه رحمه الله كان يستيقظ باكرا لصلاة الفجر جماعة في المسجد فيمشي إليه من القصر الجمهوري، وجرى له على مدى بعض الأيام أنه لاحظ رجلا يتبعه عن بعد إلى المسجد وداخله، وذات يوم دعا هاشم بك هذا الرجل إليه وسأله: من أنت يا ابني؟ وماذا تريد؟ فقال له الرجل: أنا حارسك الخاص يا فخامة الرئيس! فغضب الرئيس الجليل وقال له: اذهب يا بني ولا تعد، لا احتاج إلى حراسة، فالحارس هو الله. قال السيد جابر الأتاسي: فوالله إن فيه للمحة من شخصية الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وقال في مثل ذلك الأستاذ نجاة قصاب حسن ذاكراً بعض أوجه زهد الرئيس الجليل ونزاهته وحرصه الشديد على أموال الدولة: "وقد بلغ من حرصه أنه ضمّن الفواكه التي كانت تحملها أشجار القصر الجمهوري وأدخل محصول الضمان إلى الخزينة كإيراد للدولة، كما كان يوزع مخصصاته التي تحق له كرئيس لصرفها في الوجوه التي يراها ويخض بها صغار موظفي القصر وبموجب وثائق أصولية"[81]. ويذكر الكثير من الناس عددا كبير من قصص حرص الرئيس الجليل على أموال الدولة يطول هنا ذكرها، ، كذلك هم الرؤساء، وهؤلاء هم الخالدون ذووا الشمم والإباء، رحمه الله رحمة واسعة.
حفلة تأبين الأتاسي الكبرى:
يتابع العطري في ترجمته للأتاسي فيقول واصفاً حفلة تأبينه:
"عندما أذيع نبأ رحيل المغفور له هاشم الأتاسي، الرئيس الجليل، والسياسي الوقور المحنك، فاضت الدموع وحزنت القلوب، وتذكر الناس في كل مكان كفاحه الطويل من أجل سيادة الوطن، وترسيخ الديمقراطية، ورفع راية الحرية الكاملة للوطن والمواطن. وتدفقت برقيات التعازي من الملوك والرؤساء العرب والدول الشقيقة والصديقة وكبار الشخصيات في كل مكان.
جنازة الأتاسي الحافلة عام 1960 قد لف جثمانه الطاهر
بالعلم السوري رحمه الله
جنازة الرئيس الجليل فخامة محمد هاشم بك الأتاسي عام
1960
وأقيم للوطني الكبير والمجاهد المخلص حفل تأبين كبير في حمص (نيسان 1961م) تكلم فيه رجال السياسة والأدب وأصدقاء الفقيد الكبير، وعددوا مناقبه ومآثره وأعماله. ورثاه شاعر الشام، شفيق جبري، بقصيدة من رائع شعره، تفيض حزناً ولوعة وأسى. وقد بلغ عدد أبيات هذه القصيدة ستين بيتاً"[82]. انتهى ما ننقله من العطري، وقد أورد العطري بعض قصيدة شاعر الشام، إلا أننا آثرنا أن ننقل بعض ما جاء فيها من كتاب "شاعر و قصيدة"[83] حيث سردت القصيدة كاملة وعنوانها "رمز النضال" ومطلعها:
الربع ربعي والبطاح بطاحي
فإذا بكيت فقد بكيت جراحي
وفيها يقول:
خَلَتِ الديار فلست تبصر هاشماً
رمز النضال على شباب زمانها
يزجي المواكب تحت ظل لوائه
حمل الكفاح على الحمى ومشى به
ووراءه ماض يرّف ضياؤه
وكأنه جبل تحوط ظلاله
لم يشتر الدنيا ببيع ضميره
فيه انطوى تاريخنا وتدفقت
في كل ظل من ظلال بقاعنا
لو ترتوي الأدواح من رشفاتها
فوق الديار بخلقه اللماح
وصدى النِفاح وراء كل نفاح
فتموج ريّاً من دم وأضاح
مشي الأمين أمام كل كفاح
ملء العيون ولا رفيف أَقَاح
تاريخ قوم في الجهاد سِماح
إن باعه في الناس كل شَحَاح
بين السطور بلاغة الإفصاح
ذكرى دماء من فتى مسماح
روّي الرشيف مغارس الأدواح
****************
أتظن حمص أن جِلَّق دونها
ليس المصاب مصاب حمص وحدها
نَفَضَ الأسى ساحاتنا يوم الردى
فَجَرَتْ مدامعنا طِفاح قلوبنا
الجرح يبرد ثم يُدمي جوفَه
دمعاً يفيض من الأسى الملحاح
كل الربوع تعج بالأتراح
والذكريات تفوح ملء السّاح
لم يتسع للدمع أي طفاح
جرح يسيل بجنبه النَّضَّاح
وقد شارك شاعر العاصي بدرالدين الحامد بتأبين المغفور له هاشم الأتاسي بقصيدة عصماء من أحسن شعره، فكان مطلعها[84]:
أشرف على الخلد مضفوراً لك الغار
في ذمة الله مجد كالشعاع له
على المحيا هدوء النفس مرتسم
أوتيت حزماً ورأياً مشرقاً لهما
اسمع فأنت أحاديث وأخبار
في مدرج الدهر آيات وأنوار
وفي الفؤاد اضطرام دونه النار
في السلم والحرب إيراد وإصدار
وقال فيها أيضاً:
تطوف بي ذكريات لست أحصرها
أرى واسمع الأيام مقبلة
كم موقف كنت فيه مفرداً علما
حكمت والحكم ميزان ومحرقة
كأنها في سماء النبل إقرار
وهاشم للعلى والحكم مختار
ترنو إليك حشاشات وأنظار
فكنت عدلاً لكل منك مقدار
أحطت حكمك بالدستور لا جدل
فانقاد كل جموح في شكيمته
كنت الرئيس الذي ما فيه منقصة
فيه ولا عابث بالحكم مكار
ولم يجد منفذاً للطعن ختار
ولم تقيده أحوال وأعذار
وختمها بقوله:
نم في الضريح أبا سري على دعة
أخلصت لله قلباً مؤمناً ويداً
في هذه الدار مجد باذخ وعُلى
تاريخك الضخم للآتين أسفار
في معشر كلهم في الطيب أطهار
وفي ربا الخلد جنات وأنهار
توفي الرئيس الجليل رحمه الله في السابع عشر من جمادى الآخرة عام 1380 للهجرة الموافق للسادس من كانون الأول عام 1960[85]، ومن مفارقات الدهر أن الأتاسي نفي إلى جزيرة أرواد في شهر كانون الأول، وتم إبرام المجلس النيابي السوري للمعاهدة التي جلبها من فرنسا في هذا الشهر، وتولى منصبه الرئاسي الأول في نفس الشهر، وتولى منصبه الرئاسي الثاني في ذات الشهر، واستقال من منصبه الرئاسي الثالث في ذلك الشهر، واستقال من رئاسته الثانية لمجلس الوزراء في هذا الشهر، وقام انقلاب الشيشكلي الأول خلال مدة رئاسته في كانون الأول أيضاً.
وخرجت سورية المفجوعة كلها تسير في جنازة أبيها وزعيمها، وشيع جنازة الزعيم الوطني الكبير جمع هائل من الناس والجماهير أمّوا مدينة حمص من كل الأطراف في موكب شعبي ضخم، ونزلت حمص وفود المدن والأسر والقبائل من سائر الأركان، وحضر الجنازة العديد من وجوه الوطن وأعيانه، ومشى خلفها الوزراء، ونائب رئيس الجمهورية نورالدين كحالة، والفريق جمال الفيصل، وأرسل جمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية المتحدة آنذاك، عبدالحميد سراج، رئيس المجلس التنفيذي في الإقليم الشمالي، مندوباً عنه في تشييع جنازة الأتاسي[86]. وقد ألقى فيضي الأتاسي، ابن أخيه، كلمة ممثلاً بها آل الأتاسي رثى بها الزعيم الراحل، كما رثاه الشاعر الكبير وصديقه الأديب الوزير بدوي الجبل، وتسابق الأعلام والساسة والأدباء والصحافيون والكتاب في تأبينه، وبكى الشعب الأتاسي إذ كانت صدمته بوفاة زعيمه عظيمة وأي صدمة، ووري الثرى، رحمه الله، في مقبرة أسرته آل الأتاسي في باب التركمان، رحمه الله وبوأه مكانة عالية في جنان خلده.
وخلدته بلاده فأصدرت طوابعاً عليها صورته عام 1938م، وأطلقت اسمه على إحدى مدارس حمص الثانوية الرئيسية للبنين وعلى أحد شوارعها، كما صدر أمر من قبل الرئيس حافظ الأسد، وقبل موته بأشهر قلائل عام 2000، بتسمية الحديقة التي ستقام حول مسجد آل الأتاسي بحديقة هاشم الأتاسي كما مر معنا في الفصل السابق، وبإقامة نصب تذكاري للرئيس الجليل.
قيل في الرئيس الجليل:
قال المؤرخ والصحفي المعروف عبدالغني العطري وقد ترجم له في كتابه "عبقريات وأعلام": "أجمعت كل القلوب على حبه واحترامه. ضم بين جناحيه كل صفات الحكمة والعقل والنزاهة والزهد والبساطة. كان محباً لوطنه، مقدراً لمواطنيه، بعيد النظر، صائب الرأي، متزناً، وحكيماً. لم يكن له عدو أو خصم بين جميع الأحزاب والسياسيين، ربما لأنه لم يكن يعادي أحداً أو يضمر السوء لأحد. كان زاهداً بالحكم، يلجأ إليه من بيدهم الحل والعقد ليستشيرونه في الأمور الصعبة، والمواقف الحرجة، وكانوا يعملون بنصحه وإرشاده وتوجيهه. كان رمزاً للوحدة الوطنية، يستظل بظله المتخاصمون، ويهتدي بهديه المختلفون والمتنازعون. كان يلقب عن جدارة "بالرئيس الجليل" و "أبو الدستور"[87]. وكان يعتبر جميع أفراد الشعب إخوته وأبناءه وأحفاده. إنه حقاً أبو الشعب، وراعيه، والحريص على مصلحته"[88].
وقال مؤرخ حمص منير الخوري عيسى أسعد مترجماً له في كتابه "تاريخ حمص": "ويعتبر هاشم الأتاسي المعلم الأول للوطنيين في دنيا البلاد السورية ورائدهم وقدوتهم المثلى في عالم النضال والتضحية والبذل وأشدهم إخلاصاً وتمسكاً بالمبادئ القويمة ومن أجملهم خُلُقاً وخَلقاً وترفعاً عن الصغائر"[89].
وقال فوزي أمين صاحب النقاد مترجماً له في "وجوه": "فخامة السيد هاشم الأتاسي: فخامة رئيس الجمهورية السورية الجليل، وأبو الوطنيين في هذه البلاد التي مشت في ركاب رصانته، وأخلاقه السمحاء، وجهاده الطويل، مدة تزيد عن الخمسين سنة. يُذكر اسمه الكريم فينحني السوريون إجلالاً لمجده، ويحيون في فخامته العقيدة الوطنية التي لم تلن طيلة نصف قرن، ويحيون في فخامته النبل والمروءة والعطف الأبوي العظيم"[90].
وقال المؤرخ فائز سلامة في كتاب "أعلام العرب في السياسة والأدب" في ترجمة قديمة للأتاسي في الثلاثينات من القرن العشرين: "هاشم بك الأتاسي: خواصه وصفاته: كان في قديم الزمان لبني اسرائيل شيء اسمه تابوت العهد توضع فيه عصا موسى واللوحان المخطوطان وأثواب الكهنة، فيحملونه في محارباتهم ويمشون وراءه فيحرزون النصر الذي وعد به الرب شعبه على الأعداء ويظفرون به. والرئيس الجليل هو تابوت العهد المقدس من هيئة العصبة الوطنية، يحضرونه جلساتهم فيهتدون إلى خير الأمور ويأتمون به، كأنه علم في رأسه نار، فلا يجهد نفسه بأن يتكلم أو يكتب، وإنما على الجماعة تسطير البيانات وإذاعة البلاغات الصادرة عن مكتب الكتلة تحت توقيعه بعد عرضها عليه وأخذ موافقته والتصديق منه. وفي المجالس والمؤتمرات التي يحضرها يسود النظام، ويلقي عليها مطارف الأبهة والجلال فيزيد المقام رونقاً وكمالاً، ولعل أحسن صفاته وأشرف خصائصه أنك إذا أغضبته فلا يغضب: وأما السائل فلا ينهر وأما اليتيم فلا يقهر. شيخ وقور، مهيب الشكل، رضي الخلق. نسبه: هو سليل بيت المجد والشرف والعريق في القدم، ابن المرحوم خالد أفندي الأتاسي، مفتي حمص وأحد علمائها الأفاضل". وقال في موضع آخر من ترجمته: "أقوال الناس فيه: شهد له أخصامه بأنه عنوان الكرامة والانسانية، وضميره أنقى من ثلج الجبال، وكفه أطهر من ماء السماء، ولسانه ما تحدث مرة بالباطل، وقلبه بغير ذكر الله ومصلحة الوطن ما شغل!...والفضل ما شهدت به الأعداء"[91].
وقال الصحفي عدنان الملوحي في مقدمة ترجمته للأتاسي في "وطنيون وأوطان": "هو الرئيس الجليل كما أطلق عليه هذا الإسم عليه، نظراً لجلالة قدره وعظيم جهاده في سبيل وطنه، إنه الرئيس هاشم الأتاسي الذي ترأس وفد سورية إلى باريس عام 1936، ولكن الحكومة الفرنسية اليمينية الإستعمارية يومئذٍ نكلت بكل عهودها ووعودها ولم تذعن لمطالب سورية في الإستقلال، فعاد الوفد إلى دمشق، وأعلن الرئيس هاشم الأتاسي استئناف النضال ضد الإستعمار وسارت البلاد كلها وراءه، فقد كان زاهداً في حكم ورئاسة وسلطة لا تكون نابعة من إرادة الشعب ورغبته الحقيقية في الإستقلال الوطني والسيادة"، وقال: "وكان الرئيس هاشم الأتاسي، في الحقيقة، حلال المشاكل التي كانت تتعثر فيها الحياة الديمقراطية في البلاد، في عهود الإنقلابات والدكتاتوريات، فكان الرئيس الزاهد والصادق والنزيه والعفيف والشريف والطيب وصاحب الخلق الكريم، وهو سليل أسرة كبيرة معروفة مشهورة في مدينة حمص، وكان رحمه الله كبيرها ورئيسها"، وقال: "كان الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، شديداً على الإستعمار عنيداً في عدائه له، وكان ديمقراطياً أصيلاً لا يرضى بالانحراف عن جادة الديمقراطية وطريقها، وأذكر أنه كلما أطل انقلاب بوجهه الأسود على البلاد في ظلام الليل، حمل الرئيس هاشم الأتاسي درب طريقه، كما يقولون، وغادر القصر الجمهوري في المهاجرين إلى مدينة حمص وأغلق عليه باب منزله ورفض أي حوار مع أي مغامر وانقلابي انقض على الديمقراطية وقضى عليها في ليل"، وقال: "رحم الله الرئيس الجليل هاشم الأتاسي رحمة واسعة، فقد كان مناضلاً باسلاً ومجاهداً عظيماً كريماً وصادقاً أمينا"[92].
وقال المؤرخ نجاة قصاب حسن في مقدمة ترجمته للرئيس الجليل في كتاب "صانعوا الجلاء في سورية": "هذا الرجل المهيب بطلعته، الصادق، النافذ البصر والبصيرة، النزيه دائماً وحتى المبالغة أحياناً، والدمث الهادئ الرقيق الذي لا يقبل وساطة ولا تنازلاً عن الأمور السليمة والسلوك العالي، هذا الرجل الكبير بكل معنى الكلمة، سناً وقدراً وتجربة ومراكز عالية تسنمها، وهو من مواليد 1873 في مدينة حمص، ومن عائلة اشتهرت بالعلم والتقوى وبعدد رجالها الكبير حتى يقال عنهم تظرفاً أنهم قبيلة، واشتهرت كذلك بكثرة من برزوا منها في الحياة الاجتماعية والعلمية، فقد كان جده يتولى منصب المفتي في حمص، وخلفه في ذلك والده خالد ثم أخوه الطاهر". وقال: "كان المغفور له السيد هاشم الأتاسي رجلاً مقتدراً ذكياً شهدت له جميع مواقفه بأنه يملك من المكانة والعمر والصلابة ما يجعله الأول بين أقرانه، وكان له دور فعال في رقابة الإدارة، وليس أدل على ذلك من أن اسمه كان الأول بين الموقعين على جميع البيانات السياسية التي صدرت قبل تأسيس الكتلة الوطنية ومنذ هذا التأسيس، وكلها بيانات مصيرية وذات موقف شجاعه يستدعي المسؤولية في مواجهة عدو لا يغفر لأحد أن يعارضه، وأنه انتخب بالاجماع رئيساً للكتلة الوطنية، وإلى جانبه المناضل الكبير ابراهيم هنانو الذي أعطي لقب الزعيم". وقال: "وفي عام 1936، وبعد الاضراب الخمسيني الذي نال سمعة عالمية واضطر الفرنسيون إلى دعوة وفد للمفاوضة على معاهدة بين فرنسا وسورية، كان الرئيس الأتاسي هو الرجل المختار بالبداهة وطبائع الأمور رئيساً للوفد، وكان محل احترام الأعداء حتى أن الجنرال ديغول زاره في بيته طالباً منه قبول الرئاسة فأبى. وبالاختصار، فقد كان الرئيس هاشم الأتاسي في كل حياته في مقدمة الصف الوطني صلابة ومركزاً واحتراماً ومقدرة على معالجة الأمور باستقامة، فإذا لم يرتح ضميره إلى موقف غادر الحكم بشجاعة وبلا تردد، ولم تستطع أي قوة أن ترهبه أو تحمله على التراجع في حياته كلها"[93].
ورثاه مجدد الشام والمراقب العام للأخوان المسلمين ونائب دمشق الداعية المصلح المجاهد الشيخ العلامة الدكتور مصطفى حسني السباعي، أحسن الله عقابه وأجزل ثوابه، في مجلته "حضارة الإسلام"، ننقل بعض كلماته فيها من كتاب "أعلام المسلمين: مصطفى السباعي" للدكتور عدنان محمد زرزور، قال السباعي: "انطفأت شعلة من شعل الجهاد العنيد النبيل الذي أضاء للعرب عامة ولأبناء الإقليم السوري خاصة طريقهم إلى الحرية قرابة سبعين عاماً منذ تولى العمل الحكومي بعد تخرجه من حقوق استانبول عام 1894م إلى أن لقي ربه في الشهر الأخير من عام 1960م. تاريخ أمة، وأمجاد شعب، وعنوان كفاح، ورمز استقامة، ومثل نزاهة، ذلك هو الفقيد العظيم: هاشم الأتاسي. قاد هاشم الأتاسي معركة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي في سورية مع عدد من إخوانه في وقت كان الاستعمار يرمي بأثقاله على البلاد، والأمة تغلي غليان المحموم من وطأة الطغاة المستعمرين وأذنابهم، فوجدَتْ فيه القائد الأمين، والربان الماهر، والزعامة الحكيمة التي لا تضطرب عند اصطراع الأهواء، ولا تجبن عند اشتداد الأنواء، وسلمت له برئاسة الجمعية التأسيسية عام 1928م، ثم برئاسة الجمهورية عام 1936م، فاشتد إيمانها بقيادته وزعامته للقضية الوطنية وللحكم الوطني في حين تزعزت ثقتها في كثيرين ممن كانوا يتعاونون معه في الكفاح السلبي، ثم في دور البناء الإيجابي، وما كاد يغادر منصة رئاسة الجمهورية طائعاً مختاراً عام 1939م بعد ما بدا من سوء نوايا الفرنسيين وتصميمهم على جعل استقلال سورية أمراً شكلياً يخفي وراءه أبشع مطامع الاستعمار الفرنسي وأخسها حتى أصبح هاشم الأتاسي زعيم الأمة غير منازَع، وبطل القضية الوطنية غير متهم ولا مغموز في سيرته وإخلاصه". وأضاف رحمه الله: "لقد قدر لي أن أعرف الفقيد العظيم وما تنطوي عليه نفسه الكبيرة من شمم ونقاء خلال السنوات التي انقضت بين وضع الدستور السوري في الجمعية التأسيسية عام 1949م وبين انتهاء رئاسته الثانية (بل الرابعة) للجمهورية عام 1955م، وشهد الله ما رأيت أنبل منه نفساً، ولا أصفى منه وطنية، ولا أبعد منه بصيرة، ولا أعف منه يداً ولساناً" رحمه الله. وأضاف على هذه النبذة المؤلف الدكتور زرزور قوله: "ونحن نقول: لقد قدر لمدينة حمص، واسطة العقد في بلاد الشام، أن تهب لهذه البلاد في أخطر مراحل تاريخها الحديث: رجل الوطنية والعروبة الرئيس هاشم الأتاسي، ورجل الوطنية والعروبة والدعوة الإسلامية الشيخ مصطفى السباعي". وقد كان السيد السباعي قبل تأبينه للرئيس الجليل يشيد به في مقالاته وخطبه ومحاضراته، فقد قال في محاضرة ذات مرة عام 1360 من الهجرة في القاهرة ونقلت الكلمة في مجلة الفتح: "حتى إنني لأذكر أنني زرت منذ ثلاثة أعوام فخامة الرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي زعيم الكتلة الوطنية ورئيس الجمهورية المستقيل، وجرّنا الحديث إلى مصر وأهلها، فإذا بالرئيس الجليل يفيض قلبه إعجاباً بنهضة مصر، ويثني الثناء المستطاب على المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، ويقدر في الرئيس الفقيد صفات البطولة والإخلاص والرجولة التي كانت تملأ جوانب نفسه الكريمة"[94].
وترجم للرئيس الجليل مؤرخ الثورة السورية السيد أدهم الجندي العباسي في كتاب "تاريخ الثورات السورية" فكان مما قال: "هو الزعيم العربي المشهور بجهاده الوطني والصرح الشامخ في الكفاح والنضال ضد المستعمرين، وسليل المجد والشرف العريق صاحب الفخامة السيد هاشم بن العلامة المرحوم خالد بن محمد بن عبدالستار الأتاسي"، وقال في موضع آخر في الترجمة: "كان سيد الرعيل الأول الذي رافق القضية الوطنية منذ فجرها، وكانت كلمته هي العليا في كل نضال وكفاح ومعارضة في عهد الانتداب الفرنسي"[95].
وقال في مذكراته الوزير والنائب السوري المعروف المرحوم أسعد الكوراني من الطيبين في هذا الوطن، بمناسبة افتتاح معرض دمشق الدولي على يدي الرئيس الجليل: "وقد رأيت، ورئاسة هاشم الأتاسي تقترب من نهايتها، وهي آخر عهده في الحكم، أن افتتح كلمتي بتحيته، فكان مما قلته في هذه التحية:
"ومن واجبي أن استهل كلامي بالشكر أرفعه إلى فخامتكم لتفضلكم برعاية هذه الحفلة وتشريفكم إياها بالحضور وتلطفكم بافتتاح المعرض بعد قليل، وإذا كان المعرض بطابعه الدولي يقام لأول مرة في الوطن السوري فإن من بشائر الخير أن يكون افتتاحه بيدكم الكريمة بعد أن أسبغتم عليه الكثير من العطف والتشجيع والإرشاد، فأرجو يا سيدي الرئيس العظيم أن تقبلوا منا هذا الشكر مقرونا بابتهالنا إلى الحق أن يتولاكم بعنايته ويديمكم ذخرا لهذا الوطن الذي يحفظ لكم في سجل الخلود الكثير من جلائل الأعمال"
وقد كانت هذه التحية صادرة من أعماق قلوبنا، وكنت والأخ عزت صقال نجتمع مساء أغلب الأيام في نادي الشرق، وكان بيننا صداقة حميمة، والأستاذ عزت ذو ثقافة رفيعة وألمعية قانونية واسعة، فكان مثلي مبهورا بكفاءة الرئيس هاشم الأتاسي، ولا سيما حين يجتمع بالسفراء الأجانب، لأنه كان يحضر اجتماعه بهم بوصفه وزيرا للخارجية، وإلى جانب تلك الكفاءة كان الرئيس الأتاسي مفطورا على استقامة مثالية واحترام لكل حق، وكان واسع الاطلاع على الأحكام الدستورية، رأيته مرارا وأنا أزوره في القصر الجمهوري لأعرض عليه بعض أمور الوزارة يقرأ بالفرنسية مذكرات رؤساء مشهورين". ثم قال الكوراني في موضع آخر: "وبعد أن زرنا أجنحة المعرض العربية والأجنبية انصرف رئيس الجمهورية من المعرض بعد أن أخذ ظلام الليل يرخي سدوله، وقد أعجب الناس كلهم بنشاطه في زيارة الأجنحة على تعددها، وقد طلب مني بعد عدة أيام أن يزور الأجنحة الفردية الخاصة التي لم يزرها يوم افتتاح المعرض، فرافقته في هذه الزيارة الكريمة التي دلت على علو في النفس وتقدير لجهد مواطنيه، وقد بدا عليه التأثر المقرون بالتشجيع في زيارة مشغل سيدة حلبية مسيحية حينما عرضت عليه إنتاجها قائلة: "إن هذه المطرزة يا صاحب الفخامة تطلبت مني مليون شكة إبرة". على أن أعظم مظهر في هذه الزيارة كان لما تعالى صوت المؤذن ينادي إلى صلاة المغرب، فأعطى عصاه إلى مرافقه ودخل قبلية الجامع ووقف في الصف الرابع وأدى الصلاة مع مواطنيه من دون أي تمييز. فيا لروعة العظمة في رئاسة هذا الرجل كيف تجلت بهذه البساطة وبهذا الاطمئنان"[96] انتهت عبارة الكوراني رحمهما الله.
وقال نقيب الصحافيين في سورية الوطني الكبير نصوح بابيل رحمه الله في مذكراته "صحافة وسياسة" مشيدا بوطنية هاشم بك في عهد الاحتلال الفرنسي وبتشجيعه للصحافة الحرة الوطنية بعد أن مورس عليها من قبل الفرنسيين أعتى أنواع الإرهاب والقمع والرقابة: "وإني لأذكر في تلك الفترة العصيبة بالذات أن الرئيس هاشم الأتاسي أرسل في طلبنا، الأستاذ نجيب الريس وأنا، فذهبنا إليه في مكتبه في الكتلة الوطنية، وقال لنا: {إن إخواننا ذهبوا إلى السجون والمنافي، ولم يبق في الساحة سوانا، أنتما وأنا، فعلينا أن نواجه مسؤولياتنا بجرأة أكبر وعزيمة أقوى تساعدنا على حمل العبء كله، أقول هذا مع تقديري لنضالكما المشرف وتضحياتكما المعروفة والمشكورة} لقد فعلت كلمات الرئيس الجليل فعلها في نفوسنا، وزادتنا إعجابا بإيمانه العامر، وعقيدته الصلبة، واندفاعه في خدمة وطنه، وخرجنا من لدنه أكثر تصميما على مواصلة الكفاح حتى يتحقق النصر، وتظفر بلادنا بما تريد، أو أن نلحق بإخواننا الذين سبقونا إلى السجون، ينزلون فيها منازل المواطنين الشرفاء والمناضلين الأوفياء" انتهت عبارة المرحوم بابيل جزاه الله عنا الجزاء الحسن[97].
وقال المؤرخ سامي المبيض مترجماً له في كتاب "سياسات دمشق": "خلال حياته السياسية استحق هاشم بك لقب "أبي جميع السوريين"، وكان كل السياسيين، سواء أكانوا من الوطنيين أو المعتدلين، يطلبون النصح منه في أمورهم الشخصية والسياسية. كفوزي الغزي، كان هاشم الأتاسي يعتبر نفسه زعيماً وطنياً وليس سياسياً. عندما انتخب رئيساً للجمهورية السورية عام 1936م، رأى الأتاسي في منصبه واجباً محتماً عليه تأديته اتجاه بلاده، ولم ير فيه منصب جاه أو نفوذ كما رآه الآخرون. رئيس الجمهورية، كما كان الأتاسي يتصوره، لم يكن أكثر من موظف حكومة وليس له أن يستغل منصبه لأي كسب شخصي أو متعة ذاتية، إنه مطالب أمام الشعب الذي اختاره لهذ الوظيفة بالعمل لخدمة البلاد لا لخدمة نفسه. ولكي يضمن الأتاسي تطبيق إيمانه بواجبات الرئيس أضاف إلى دستور عام 1928 مادة تحدد مدة الرئاسة بخمس سنوات فحسب. كان الأتاسي يخشى إن طالت مدة رئاسة الفرد أكثر من ذلك أن يؤدي ذلك إلى إفساد أخلاقيات القائد وتحويله إلى سياسي يطلب مجداً وشهرة بدلاً من أن يكافح من أجل غرض سامي ولرفعة شعبه. خلال تاريخ سورية السياسي، قليلون هم الذين كانوا بعدل واستقامة وإخلاص ووطنية هاشم الأتاسي"[98].
وقال المجاهد الوطني، عبدالغني الأسطواني، واصفاً شخصية فخامة الأتاسي بعد أن اجتمع به: "واجتمعنا بالسيد رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، الخلوق الوديع ذي الأخلاق العالية الرفيعة المتواضعة بشخصيته النادرة، الذي لا يعرف الكبرياء والعظمة التي كنا نشاهدها من بعض الرؤساء"[99].
وقال السياسي الوطني الكبير محمد عزة دروزة، أحد أعضاء المؤتمر السوري الأول (1919م) وسكرتير الجمعية التأسيسية، وأحد واضعي الدستور السوري الأول، في وصفه لبعض أعضاء المؤتمر: "ومن هؤلاء هاشم الأتاسي، وكان كهلاً ناضجاً وقوراً متزناً ذا معارف قانونية وإدارية وذا أخلاق مرضية وأفق واسع وأناة وروية، ويلمح المرء فيه الطيبة والصدق والصراحة، وكان وحدوياً استقلالياً صلباً في وطنيته لا يوارب ولا يداجي، فكان بذلك يبعث في النفس له الاحترام والطمأنينة، وكان يمنحني عطفاً وثقة ويستشيرني في المواقف ويأخذ برأيي مع ما كان من فارق السن بيني وبينه حيث كان يكبرني بنحو 15 سنة أو أكثر"[100].
وقال المؤرخ الحلاق: "هو رجل لطيف العشرة، رحب الصدر، يعتمد مشورة إخوانه، وينزل عند رأي الأكثرية"[101]
وقال مؤرخ العصر العلامة الشاعر الزركلي في نهاية ترجمته لهاشم بك في كتابه الشهير "الأعلام": "كان نقي السيرة، عف اليد واللسان، قوام زعامته النزاهة والإخلاص"[102].
وقال المؤرخ والشاعر مير البصري في ترجمته للأتاسي في كتاب "أعلام الوطنية والقومية والعربية": "بلغ الأتاسي من العمر عتياً، ولكنه ظل الرجل الذي يحترمه الجميع" إلى أن قال: "كان رجلاً معتدلاً وقوراً نقي السيرة ترجع إليه الأمة السورية في الملمات فيهيئ لها الزعامة الديمقراطية الحرة على الرغم من شيخوخته"[103].
وقال نقيب أشراف دمشق الحصني في حديثه عن أشهر رجال الفضل في حمص: "وهاشم بك من أعظم رجال الإدارة في البلاد الشامية ورئيس المجلس التأسيسي وقد نوهنا عن بعض خدماته الصادقة نحو البلاد في الجزء الأول من كتابنا"[104].
وقال النائب والسياسي المعروف عبداللطيف اليونس في مذكراته أن حياة هاشم الأتاسي السياسية: "هي من أشرف وأنقى صفحات تاريخنا الحديث"[105].
وقال رئيس الوزراء السابق ونائب دمشق في المجالس البرلمانية، الوطني الكبير دولة لطفي الحفار: "إن الرئيس الأتاسي قبل التعاون مع العسكريين الذين لجأوا إليه لتفادي الحكم الدكتاتوري، لا رغبة منه بالمناصب الحكومية والرئاسات، لأنه قضى حياته كلها في النضال الوطني الشريف، وظل محترماً وموضع تقدير حتى نهايتها"[106].
وقال نجدة فتحي صفوة، من كتّاب جريدة الشرق الأوسط، في ترجمة للأتاسي في تلك الجريدة: "كان هاشم الأتاسي يتمتع بمكانة مرموقة في سورية والبلاد العربية، ويحظى باحترام الفئات السياسية والوطنية، وعلى الرغم من تقدمه في السن لم يكن من الممكن تجاهله كعنصر من عناصر الاستقرار"[107].
وقال المؤرخ Bidwell: " رجل معتدل وواع وهادئ، كان هاشم الأتاسي أحد أكثر سياسي سوريا تمسكاً بالمبادئ"[108].
وقال المؤرخ Torrey: "هاشم الأتاسي، الزعيم القديم، تجلت فيه صفات النبل والشرف والوقار والمبادئ الأخلاقية الفضيلة للجيل الأقدم. كان محترماً بصورة عظيمة من قبل المواطنين السوريين، وزعامته كانت تُنشد في أوقات الأزمات"[109].
وقال المؤرخ Seale: "وأعلن الحناوي انسحاب الجيش من السياسة، ودعى الرئيس القديم هاشم الأتاسي، أعظم رمز لنضال سوريا ضد الإنتداب الفرنسي، ليشكل حكومة"[110].
وبعد، لقد كان الأتاسي من أعظم رجالات التاريخ الحديث إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، أقرب في أخلاقه وسماته إلى أخلاق الصحابة رضوان الله عليهم من أخلاق عصرنا، اعتبره مواطنوه أباً لبلادهم، ورمزاً لنضالهم وحريتهم ووحدتهم، ولا أعلم شخصية في التاريخ الحديث، وقد مررت في دراستي وإعدادي لبحثي هذا على مئات الكتب والمصنفات والدوريات، كان لها مثل هذا الإجماع على حبها واحترامها من جميع من عرفوها مهما اختلفوا في أفكارهم واعتقاداتهم وميولهم وأغراضهم، في حين أن لكل السياسيين أينما كانوا من يعارضهم ويتعرض لهم بالذم والتفنيد، ولم يكن عميدا للساسة السورين والعرب فحسب ولكن كان زعيما لكل الشعب بكل طبقاته، وقد مر على ذكره وسيرته العَبِقة وترجمته عشرات بل مئات الكتب وبألسنة عدة، ذكرنا عدداً من هذه التراجم، ونذكر منها أيضاً على سبيل المثال لا الحصر كتاب "دائرة المعارف" للبستاني[111]، و"موسوعة أعلام سورية في القرن العشرين" للبواب[112]، و"معجم المؤلفين" لكحالة[113]، و"معالم وأعلام" لقدامة[114]، وكتاب "من أعلام حمص" للتدمري[115]، "والحكومات السورية في القرن العشرين" لجمعة وظاظا[116]، وكتاب "معالم وأعلام من حمص الشام" للشيخاني وكاخيا[117]، وكتب "من هم في العالم العربي"[118]، و"من هو في سورية 1949"[119]، و"من هو في سورية 1951"[120] وهي لجورج فارس، و"الموسوعة التاريخية الجغرافية" للخوند[121]، و"تاريخ سوريا" لسلطان[122]، و"سورية: صراع الاستقطاب" للبزي[123]، والقاموس السياسي" لعطية الله[124]، وموسوعة بريتانيكا الشهيرة[125]، والموسوعة الأمريكية[126]، و"المورد" للبعلبكي[127]، وكتاب "المنجد"[128]، و Dictionary of Modern Arab History by Bidwell[129]، و Political Dictionary of the Arab Wrold by Shimoni[130]، و Historical Dictionary of Syria by Commins[131]، وInternational Who s Who[132]، وغيرهم عدد كبير لا يمكن حصرهم.
والجدير بالذكر أن والدة السيد هاشم الأتاسي هي الشريفة رقية آل السيد سليمان بنت محمد بن ابراهيم بن صالح بن السيد سليمان الأتاسي ووالدة بعض اخوته (خليل عبدالهادي ومظهر) كما ورد في ترجمة والده الشيخ العلامة خالد الأتاسي، وقد تزوج السيد هاشم الأتاسي من ابنة عمه السيدة وردشان بنت الشيخ المفتي عبداللطيف بن محمد الأتاسي رحمهم الله أجمعين.
صب الله على هاشم الأتاسي من سحائب رحمته، وأحسن عاقبته ومثواه، وطهر ترابه، وحشره مع الأنبياء والصديقين الأبرار، آمين.